حسن م. يوسف.. صديق القارئ
المغارة في قريته «الدالية - 65 كم عن اللاذقية» كانت الملاذ الوحيد للطفل حسن م. يوسف «1948» الذي كان وقتها في سنته التاسعة؛ حيث كانت بمثابة «الغار» لكن دون وحي يتنزل أو ملاكٍ سوى اللعب الحر والبريء مع درنات «بخور مريم» التي كان يصنع منها دواليب لشلال الماء المتساقط على مدخل المغارة، مصيخاً سمعه الطفولي لصوت الريح والماء عليها. لعب اخترعه الصبي الصغير؛ هرباً من غشامة الفقر وقسوة الحياة في الضيعة الجبلية التي فتح عينيه على وعورة طرقها وعلى عشرة إخوة كان هو أكبرهم؛ ولأب يعمل في الأرض «محمد يوسف» ولديه دكان صغير في القرية، يتدبر به قوت عائلته: «لا تاريخ دقيقاً ليوم ميلادي، يوم أبي تزوج أمي في قيود الدولة كان لديه أربعة أولاد، حتى تاريخ ميلادي قدّروه لي تقديرا».
عرف صاحب «العريف غضبان - وزارة الثقافة - 1978» المدينة من رحلاته الشهرية مع أبيه إلى (جبلة) لشراء بضاعةٍ للدكان الصغير؛ لكن الرحلة التي لا ينساها كانت مع «سكينة» حين اصطحبته والدته معها تنفيذاً لوصفة سحر قدّمتها عرّافة غجرية للأم من أجل شفاء ابنها المريض (عبد الحميد) الأخ الأصغر للكاتب السوري الساخر: «أتذكر اليوم صوت أمي وهي تخاطب البحر على شاطئ الميناء في جبلة: (يا بحر يا كبير لا تبخعنا، جيناك من الجبل طلاب) ثم قسمت زوادة من حبات بندورة وبعض البيض البلدي بيننا وبين البحر، أعطتني حصتي وحصته، ورميتُ بيدي الصغيرين نصيباً للموج، ثم قالت لي بأن أرمي بعدها ثياب أخي الصغير للبحر أملاً في برائه من علته صارخاً: (هذه ثياب أخي يا بحر.. خذها وألبسه ثوباً من عافيتك)». مشهد سوف يستعيده صاحب «قيامة عبد القهار عبد السميع – الأهالي - 1988» في قصصه، لا سيما قصته «البحر ثلاثاً» من المجموعة السابقة، ليوظفها في ما بعد في مشهد لبطلته «لبيبة» في سيناريو كتبه للتلفزيون عن رواية حنا مينة «نهاية رجل شجاع - 1994».
«الزمن كائن نبيل؛ يمضي ولا يعبأ بنا، علاقة البشر بالزمن ضحلة مثل علاقة الطفل بالقمر حين يمد يده لتناوله، حتى أن البشر يقولون راح الوقت، مع أن الوقت لا يروح ولا يأتي؛ الوقت مطلق، من يذهب هو نحن، حتى في الدين الإسلامي هناك مقولة مفادها: لا تسبوا الدهر فأنا الدهر» يقول السيناريست يوسف، مستذكراً أيامه الماضية، خصوصاً سنوات دراسته للإعدادية في حي (الدريبة) بجبلة، يومها استأجر الشاب اليافع مع رفيقٍ له غرفة عند سيدة مصابة بالصرع: «حققتُ رغبتي بالاستقلال عن أهلي، وكانت المرة الأولى التي أضع بها إصبعي على زر جرس كهربائي للبيت، أيقظتُ الحجارة يا رجل، وأنا أواصل قرعه، مستمتعاً بلذة غريبة، يومها سعيتُ مباشرةً لتحقيق حلمين كانا يسيطران على مخيلتي: أن أدخل إلى السينما وأن أركب حصان الحديد (الدراجة الهوائية)».
«الجائع لا يستقل، الجائع دوماً محكوم ومسحوق بجوعه» يقول صاحب «الآنسة صبحا ـ الينابيع - 1993» حين اكتشف الشاب الصغير أن حلمه بالاستقلال عن بيت والده كان ما يزال باكراً عليه: «كنتُ أعيش على زوادة من الطعام يرسله لي الأهل أسبوعياً من القرية وهي مكونة من بعض أقراص الشنكليش والخضار والبيض والزيت، ولهذا كنتُ أقضي وقتي في كراجات جبلة منتظراً هذه الزوادة؛ أنا الفتى النحيل الذي لم يكن يوماً مندمجاً في محيطه ولا يتقن العمل في الأرض؛ ومع أنني تعرضتُ للضرب مراراً من قبضايات الجبل أو المدينة؛ إلا أنني كنتُ وما أزال أمتلك عصباً قوياً دافعتُ به عن نفسي؛ فأبعد عني الطغاة الصغار منهم والكبار وعفاريتي عديدة».
السينما
على باب سينما الفردوس في جبلة كان يقف الشاب (حسن)، وفي جيبه ثلاثة فرنكات، مبلغ لا يكفي لحضور الفيلم، لكنه يكفي فقط للوقوف خارج الصالة، مسترقاً السمع لصوت الحوار بين أبطال الشريط السينمائي الدائر. من هنا بدأ الشاب الصغير ولعه بكتابة السيناريو الذي أصبح علامةً فارقةً من خلاله: «من الصوت المتسرّب إلى خارج صالة العرض كنتُ أستمع لحوار شخصيات الفيلم، متخيلاً حروباً وعشاقاً وجيوشاً وأحصنة ومصائر؛ إلى أن يُدخلني بوّاب السينما، قاذفاً بجسدي الصغير بخشونة إلى ظلام الصالة وقد شارف العرض على الانتصاف؛ آخذاً مني حيلتي من النقود».
ترك «حسن» مدرسة «الحرس القومي» ببانياس؛ بعد تعرضه هناك لحادثة الغرق في البحر، لولا تدخل ضابط بحري أنقذه من موت محتوم، ليعود مجدداً إلى جبلة، ويحصل فيها على شهادة البكالوريا من ثانوية «الإخاء العربي» أو «الليخا» كما كان يسميها أبناء جيله.
إلى دمشق حزم الشاب حقائبه ليسجل في كلية الحقوق بجامعتها، لكنه على عكس رغبة أبيه اختار دراسة الأدب الإنكليزي، متقاسماً غرفة صغيرة بحي جوبر مع صديق للعائلة المصور الفوتوغرافي عبد الحميد هلال إلى أن سكن في قبو بساحة الميسات: «عملتُ في مصلحة التسيير الذاتي بجامعة دمشق، واشتغلتُ في مهنٍ متعددة لتدبر قوت يومي، حشوتُ وسائد بالقطن في سوق الحميدية وسواها من المهن الفلكلورية، إلى أن تعرّفتُ على امرأة دمشقية تعاطفت معي أنا الشاب النحيل الأسمر الذي أحرقته الشمس؛ تعاطف ديزديمونة مع عطيل، فحكيتُ لها عن طفولتي السعيدة وعن حبي الأول لفتاة حال اختلاف الدين من زواجي منها!».
قصة حبه الأولى التي رواها صاحب «عبثاً تؤجل قلبك ـ وزارة الثقافة 2000» لتلك السيدة الدمشقية؛ دفعت هذه الأخيرة للطلب منه أن يكتبها كقصة؛ وفعلاً انكب الشاب على إنجاز قصته بكامل أعصابه تحت عنوان «ليست منكم» ليجدها منشورةً كقصة العدد في مجلة «جيل الطلبة». شرارة توهج معها اسم الشاب بين جمهور الطلبة، ليشارك بعدها في مسابقة نظمها اتحاد الطلبة، ورأس لجنة تحكيمها في ذلك الوقت زكريا تامر الذي أعطاه بطاقة طيران إلى القاهرة، الجائزة التي اعتادت مسابقة الجامعة منحها آنذاك للفائز الأول في كتابة القصة القصيرة.
صحافة
رجع «يوسف» من القاهرة ليعمل في الصحافة كمحرر لصفحة (ممرات بين الأصابع) في مجلة (جيل الثورة)؛ لتطير شهرة مقالاته وقصصه في الصحافة السورية، إلى أن عمل محرراً في القسم الثقافي بجريدة تشرين بعد إنهائه خدمة العلم عام 1978: «أتذكر سؤالاً وجهته لي لجنة القبول لتعييني في الجريدة: (ماذا تريد أن تكون في المستقبل؟) فأجبتهم: أريد أن أكون مواطناً، وأنا لم أخن هذا القرار يوماً منذ قرابة أربعين سنة حتى الآن، ولم أكن مسؤولاً إلا عن الكلمة التي أكتبها، كنتُ مواطناً، أو قُل محاولة مواطن؛ لأنني فشلتُ؛ فالشخص منا لا يستطيع أن يصير مواطناً إلا إذا كان موجوداً في وطن؛ والمواطنة لا تتحقق إلا بوجود وطن، وجيلنا فشل في تحقيق هذا الوطن والدليل على ذلك ما يجري اليوم في سوريا».
الحرية ليست شيئاً يعطى، يتابع سوف ويضيف: «الحرية تؤخذ، فبرأيه إحساس الكاتب بالحرية هو الذي يجعله حراً أو غير حر: «شخصياً كنتُ أشعر بالإطراء حين يمنعون لي زاوية في جريدة تشرين، وهذا كان يتكرر شهرياً، وأحياناً يمنعون لي أكثر من زاوية في الشهر الواحد؛ وهنا كنتُ أشعر أنني ما زلتُ أحمل تلك الشعلة التي دائماً كنت أحاول الحفاظ عليها؛ فمع كل منع من النشر كنتُ أشعر أنني لم ولن أصبح موظفاً».
الصحافة نقلت «يوسف» إلى بيوت الناس عبر رسائل كان يتلقاها يومياً من بريد القراء في الجريدة: «كنتُ مصراً على أن أبقى في مِحرق الحياة، فانعكس ذلك على أسلوبي، ولهذا تجدني حريصاً أن لا أتعالى على القارئ في ما أكتب، القارئ اليوم لا يحتاج إلى أساتذة، بل إلى أصدقاء، ولهذا كنتُ دائماً أحاول أن أكون صديقاً للقارئ».
شهرة صاحب «أب مستعار- هبا - 2002» سطعت في مجال كتابة السيناريو، فوقّع العديد من الأعمال والملاحم الوطنية للتلفزيون، كان أبرزها جزءين من مسلسل «إخوة التراب - 1996 - الجائزة الذهبية في مهرجان القاهرة» مع المخرج نجدت إسماعيل أنزور: «لم أكتب إلا بحجم الوقت الذي أتيح لي، وليس بحجم الشوق إلى الكتابة».
لم ينقطع «يوسف» عن تأليف القصة؛ ففي العام الماضي نشر قصتين في مجلة (الموقف الأدبي) هما: (الساخر يخرس) و(حبنا السري) مستقياً أحداثهما من حياته كأديب وصحافي؛ لكنه توقف منذ اندلاع الأحداث في سوريا عن كتابة السيناريو: «لم أدخل يوماً في هذا المجال بشروط السوق؛ بل بشروطي، وأزعم أنني كتبتُ التلفزيوني بمستوى السينمائي، لكن الدولة تركت الدراما اليوم للسوق، وفي قوانين السوق كما هو معروف؛ العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، للأسف لم يتبق اليوم إلا الضباع والكلاب، فالضبع يريد أن يأكلك والكلب يجب أن تطعمه».
سامر محمد اسماعيل: السفير
إضافة تعليق جديد