«اسطنبول» لأورهان باموق: حكاية المدينة وكاتبها وحزنها الشديد
في الصفحة الأخيرة من رواية «اسمي أحمر» لأورهان باموق، تختم شكورة بطلة الرواية، وأم الصبيين شوكت وأورهان، قائلة: «حكيت هذه الحكاية التي لا يمكن رسمها لابني أورهان لعله يكتبها. وأخرجت من صرّتي الرسائل التي أرسلها لي قرة وحسن، ورسم الخيول المتبدد صبره، والذي كان مع ظريف أفندي المسكين وأعطيتها له. إنه عصبي ومزاجي وتعيس أبداً. ولا يخشى من أن يظلم من لا يحب. لهذا، إذا رسم امرأً تائهاً أكثر مما هو عليه، وصوّر حياتنا أصعب، وشوكت أسوأ، احذروا من تصديق أورهان. لأنه ليست ثمة كذبة لا يقدم عليها لتكون حكايته جميلة ونصدقها». وفي كتاب «اسطنبول الذكريات والمدينة» لأورهان باموق نفسه، يقول لنا الكاتب في السطور الأخيرة: «أعرف أن شجاراً لن ينشب مع أمي في تلك الليلة، وأنني بعد قليل سأفتح الباب وأهرب الى الأزقة التي تمنحني سلواناً. وبعد أن أمشي مطولاً سأعود في منتصف الليل الى البيت، وأجلس الى الطاولة لاستخراج شيء ما من جو هذه الأزقة وكيميائها. قلت: لن أغدو رساماً، سأكون كاتباً». في الحالين، في الرواية وكتاب الذكريات، لدينا فتى اسمه أورهان، وله أخ اسمه شوكت، كان يمكن أن يصبح رساماً لكنه قرر أن يكون كاتباً. الوضعية نفسها لكن الفارق بين الأورهانيين قرون من السنين، وحكاية حياة شديدة الاختلاف، والأهم من هذا: أن الأول شخصية في الرواية، أما الثاني فإنسان حقيقي، يكتب هنا صفحات من ذكرياته.
> مهما يكن علينا أن نعرف دائماً، من خلال قراءتنا كتب أورهان باموق، أن المزج بين شخصيات الواقع وشخصيات الخيال، عنصر أساس من عناصر هذه الكتب. وهو أمر يؤكده لنا الكاتب في كتابه «اسطنبول»، حيث تطالعنا بورتريهات لشخصيات يدهشنا كم أنها حاضرة في رواياته، من «الكتاب الأسود» الى «ثلج»، التي يدور معظم أحداثها في أقصى الشمال الشرقي لتركيا. ومن هنا حتى نقول إن قراءة ذكريات باموق حول «اسطنبول» باتت أمراً لا مفر منه، للغوص أكثر في رواياته، خطوة يدعونا إليها الكاتب على أية حال منذ الصفحة الأولى لهذا الكتاب، حيث يبادرنا الى القول: «آمنت في زاوية من زوايا عقلي، ومنذ سنوات طويلة تمتد حتى الطفولة بوجود أورهان آخر، هو توأمي، وحتى مثيلي الذي يشبهني في كل شيء، والمطابق لي تماماً، يعيش في بيت يشبه بيتنا، وفي مكان ما من أزقة اسطنبول». ولعل هذا الأورهان الآخر هو نفسه ذلك الصبي في رواية «إسمي أحمر»، حتى ولو كان هذا الأخير قد سبق بقرون عدة!
> كما هو واضح، ليس كتاب «اسطنبول، الذكريات والمدينة» رواية أخرى من روايات باموق، وليس حتى كتاب مذكرات. هو سرد لمجموعة من الذكريات المستقاة مباشرة من حياة الكاتب... لكن أكثر من هذا: من حياتين تندمجان هنا، أكثر مما في أية رواية أخرى من رواياته، حياة مدينة اسطنبول نفسها، وحياة آل باموق ومن دار من حولهم... لا سيما حياة أورهان مع أخيه شوكت، الحقيقي والذي سيصبح لاحقاً عالماً ومؤرخاً اقتصادياً مرموقاً له كتب مترجمة الى العربية، مع أن الآخر الروائي لا يذكر عن هذا شيئاً. كل ما يذكره عن شوكت أنه كان يضربه وشديد العداء له، تماماً كما حال شوكت الآخر مع أورهان الآخر في «اسمي أحمر». ومع هذا، علينا ذات لحظة أن نتجاوز هذا كله، لندخل مع أورهان، الى أزقة المدينة وأزقة تاريخها، وحتى في دهاليز الرسامين والكتاب الأجانب الذي صوّروا المدينة بأفضل كثيراً مما صوّرها أبناؤها. وهذا أمر يؤكده باموق فيما يتحدث عن ثيوفيل غوتييه أو غوستاف فلوبير أو دي نرفال، من الكتاب، ثم بخاصة عن الرسام ميلينغ الذي كاد يكون متخصصاً في رسم مناظر البوسفور.
> يخبرنا أورهان منذ الفصل الأول، أنه ولد في 7 حزيران (يونيو) 1952، «بعد منتصف الليل بقليل في مستشفى حقير في حيّ موضة في اسطنبول. كانت الممرات هادئة وكذلك العالم. لم يكن ثمة ما يهز في كوكبنا غير نشاط بركان (سترامبولي) في إيطاليا، الذي راح يقذف اللهب والرماد قبل يومين. في الصحف، كانت ثمة ملاحظات في شأن الجنود الأتراك المحاربين في كوريا الشمالية (...)». غير أن الأخبار الأساسية التي يخبرنا أورهان أن أمه قرأتها «بانتباه قبل أن تلدني بساعات، كغالبية الاسطنبوليين»، كانت عن «مدينتنا: بائع القماش الذي تعرف على جثة اللص صاحب السوابق الذي انتبه إليه وهو يحاول الدخول الى أحد البيوت من نافذة دورة المياه في حي لانغة، وكان يضع على وجهه قناعاً مخيفاً، قبل أن يحاصر في مستودع للأخشاب بعد مطاردة الحراس (...) ثم انتحر بعد أن شتم الشرطة...». هكذا إذاً يموضع أورهان ذكرياته وذكريات ولادته، في علاقة مباشرة مع ما كان يحدث في مدينته. وفي علاقة داخل أسرته ومع عمارة باموق التي يقيم فيها أهله مع أهلهم موزعين على طوابق ومعسكرات ومشاكل وخلافات، حتى بين أبيه وأمه.
> لكن الأهم من هذا كله، تلك الصفحات بل الفصول التي يفردها باموق لما يسميه «الحزن»، مستخدماً هنا التعبير العربي نفسه شارحاً إياه بأكثر من معنى أبرزها «الشجن». ويعيد باموق هذا الحزن الاسطنبولي الجذري، الى إحساس سكان المدينة بما فقدوه من عز بين زهو أيام الإمبراطورية وكآبة أيام الجمهورية. وهو في طريقه يفسر لنا كيف أن الأجانب، لكن في القرن التاسع عشر، كانوا أفضل كتابة عن اسطنبول من أبنائها. ومع هذا، يحكي لنا عن أربعة أساتذة اسطنبوليين كبار، عرفوا كيف يتحدثون عن المدينة في القرن العشرين، لكن دائماً مع قدر كبير من الشجن في كتاباتهم. وهم في رأيه، الشاعر «الكبير البدين قليلاً» يحيى كمال، الذي يعرف البلد كله شعره. والمؤرخ الشهير رشاد أكرم قوتشو، «الذي لفت نظري أول مرة من رسوم أدوات التعذيب عند العثمانيين التي أوحى بها لتكون مرافقة لمقالاته في صفحة التاريخ في الجرائد»، وكاتب المذكرات عبدالحق شناسي حصار، والروائي طانينار. ويفيدنا باموق بأنه «في فترة من فترات حياتهم، انبهر هؤلاء الكتاب جميعاً بالأدب الغربي، وعلى الأكثر بالأدب والفن الفرنسيين (...)، وقد علمهم هذا الانبهار «ضرورة أن يكونوا حداثيين أو غربيين في أعمالهم في شكل لا عودة منه». ومع هذا، فإن هؤلاء وقعوا «بين رغبتهم بالابتعاد من التعليمية والسياسية بدافع غريزي جمالي، وبين المطالب القومية...»، ما يفسّر جزءاً كبيراً من توجهات الأدب التركي في القرن العشرين.
> يبقى أن أجمل صفحات الكتاب وفصوله تبقى تلك التي يأخذنا فيها أورهان باموق الى داخل حياته العائلية، متجولاً بين بيوت الأقرباء – الجيران. وهي فصول يخيّل الى المرء معها أنه يتجول حقاً في فصول رواية «الكتاب الأسود» في شكل خاص، وربما أيضاً «جودت بيك وأولاده». ثم هناك النزهات العائلية على مياه نهر البوسفور، لا سيما مع الوالدة التي تبدو شخصية منتزعة تماماً من «الكتاب الأسود». ولم ليس من «اسمي أحمر» كذلك؟ والى هذا، هناك ذلك الفصل الطريف والغريب المعنون «لا تسيروا في الشوارع فاتحين أفواهكم»، حيث ينقل الكاتب عن الصحافة التركية فقرات من «نصائح» و «إعلانات» نشرتها طوال ما يقرب من قرن من الزمن. أما السياسة، فلا تغيب وإن كان باموق يحرص على تجنّبها في شكل مباشر، ومن هنا نرى مروره خفيفاً على التاريخ وعلى القضايا الكبرى، وربما أحياناً عبر المقارنة بين المصطلحات التي تلامس التاريخين التركيين القديم والحديث، حيث يتوقف عند «كيفية تسمية الأحداث» ودلالاتها السياسية والأيديولوجية. ولعل الفصل المتحدث عن أغنياء اسطنبول يشكل محاولة مميزة لاختراق الفروقات الطبقية والتوقف عندها من دون أن يزعم الكاتب أنه يفعل ذلك. وهذا التوقف عند أخلاقيات أولئك الأغنياء وموقعهم في المجتمع، يحيلنا الى صفحات الحياة الاجتماعية في بعض الجرائد الاسطنبولية، لا سيما العائدة الى سنوات الخمسين حيث كانت هناك صحافة وزوايا مخصصة لأخبارهم، وغالباً في سخرية منهم.
> أما تاريخ اسطنبول الخاص، فهو الذي يشغل، بتغيّرات طوبوغرافية المدينة، وحرائق قصورها الخشبية والمضاربات العقارية، معظم أجزاء هذا الكتاب الذي، بعيداً من أن يكون تاريخاً لشخص من خلال حياة مدينته، يأتي أشبه بأن يكون تاريخاً للمدينة، من خلال نظرة كاتب، بل جيل بأكمله إليها. وهنا تكمن قوته الرئيسة.
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد