ذاكرة الاستخبارات اللبنانية لغسان شربل
لم يتسنّ لـ"العسكريتاريا" اللبنانية مجاراة مثيلاتها العربية في الامساك المباشر بالسلطة بسبب طبيعة النظام اللبناني وتركيبته الطائفية التي لا تتيح للانقلابات العسكرية النجاح. لكن حلم السيطرة وادارة البلاد ظل هاجسا وهدفا للفاعلين في المؤسسة العسكرية، وسطواً عملياً عليها في الظل ومن وراء ظهر المؤسسات الدستورية. يسجل التاريخ اللبناني ان قادة أجهزة المخابرات مارسوا دورا اساسيا فتسلطوا على السياسة والسياسيين بشكل لا يقل عما فعلته العسكريتاريا العربية، فكانت لهم كلمة طولى في السياسة الداخلية والخارجية للبلاد، وكان لهم نفوذ في تعيين الوزراء وتشكيل اللوائح الانتخابية وتعيين كبار الموظفين. يقدم الزميل غسان شربل في كتاب صادر عن "دار رياض نجيب الريس" مقابلات مع ثلاثة من قادة المخابرات اللبنانية، وضابط رابع، لعبوا دورا اساسيا في الحياة السياسية اللبنانية. فجميل السيد ارتبط اسمه بفترة الهيمنة السورية في لبنان وكان أحد ابطالها الاساسيين، وكان جوني عبده مدير المخابرات في عهد الياس سركيس، ومثّل غابي لحود الفترة الشهابية التي امتدت من عام 1985 حتى 1968. اما محمود مطر فهو ضابط ارتبط اسمه بأكبر عملية استخباراتية تجاوزت لبنان لتمس العلاقة مع الاتحاد السوفياتي.
يبدأ شربل مقابلاته بمدير الامن العام جميل السيد في عهد اميل لحود وأحد المعتقلين راهنا في قضية اغتيال الرئيس الحريري. لا يزال اللبنانيون يتذكرون حجم الدور المركزي الذي كان يحتله السيد بكونه المعتمد السوري الأساسي داخل النظام اللبناني. لم يكن رئيس الجمهورية يقوم بزيارة خارج لبنان الا يكون السيد في عداد الوفد الرئاسي. ولأن المقابلة معه اجريت بعد اغتيال الحريري، كان من الطبيعي أن يطغى هذا الموضوع عليها. يجهد السيد في نفي أي تهمة عن ضلوع جهاز الامن العام وقائده بعملية الاغتيال، لكنه يلقي مسؤولية العبث بمسرح الجريمة على مدير قوى الامن الداخلي وعلى القضاء. كما يبرّىء الامن العام من مسؤولية ضرب المتظاهرين امام قصر العدل في7 آب عام 2002 او في قرار غلق محطة M.T.V.
ويصف السيد علاقته بالحريري بأنها حسنة عندما كان الرجل خارج السلطة، فيما تعكرت ابان وجوده في الحكم. ويعتبر أن العلاقات اللبنانية – السورية استراتيجية وقائمة على حماية المقاومة، مبدياً عدم موافقته على اتهام سوريا بالفساد والافساد في لبنان، لأن هذه المدرسة نابعة من وجود النظام الطائفي، مفسراً الغضب اللبناني ضد سوريا بأنه نتيجة ممارسات حلفاء سوريا في لبنان وليس الهيمنة السورية المباشرة على البلد. ويشيد برئيس الجمهورية الذي لم يتمكن من التفاهم مع السياسيين اللبنانيين لأنه لا يعرف المقايضة ولا يريدها فيما هدفه الاساسي قيام دولة المؤسسات والقانون.
المقابلة الثانية مع جوني عبده الذي كان مدير المخابرات في عهد الرئيس سركيس بين 1976 و1982، واجريت عام 1993، لذا تغيب عنها قراءة الحوادث الاخيرة بعد اغتيال الحريري، على رغم ان شربل سبق له وأجرى مقابلة مع عبده بعد الاغتيال. يقدّم عبده تفاصيل عن عهد سركيس الذي انتهى بالاجتياح الاسرائيلي الذي وُصف عبده آنذاك بأنه احد "مهندسيه". يقول ان سركيس اتى من خارج نادي الرؤساء، ولم يكن ممثلا لجناح متشدد في طائفته لأن "تركيبته تقوم على فكرة الدولة والمؤسسات والتعايش والتوازن". كان عهده الاصعب حيث وصلت الحرب الاهلية بأبعادها الداخلية والاقليمية الى ذروتها وانتهت بالاجتياح الاسرائيلي وتنصيبه رئيسين للجمهورية، كاشفاً ان المخابرات اللبنانية كانت تملك معلومات مسبقة عن الاجتياح، وقد نقلتها الى السلطات السورية التي لم تأخذها في الاعتبار ولم تصدقها، مؤكداً في هذا المجال ان بشير الجميل كان يعرف موعد الاجتياح وطبيعته وحجمه والمدى الذي سيصل اليه في بيروت. تتضمن المقابلة معلومات مفصلة عن عمل جهازه والصعوبات التي واجهها وخصوصاً في العلاقة مع قيادات المقاومة الفلسطينية، لكنه، في المقابل، ينفي تورط اجهزته في عمليات الاغتيال والتفجيرات التي عرفها لبنان. اما عن علاقته بالرئيس الحريري فيقول انها بدأت عام 1983، وان الرجل لم تكن لديه طموحات شخصية او مالية في لبنان، وان نقطة ضعفه كانت في تفاؤله الدائم.
يخصص الكاتب غسان شربل المقابلة الثالثة للعقيد غابي لحود الذي تولى رئاسة المكتب الثاني عام 1964، بعدما كان احد اركانه خلال عهد شهاب 1958 – 1964. يشير لحود الى عدد من الحوادث المفصلية، فلا ينفي تدخل المكتب الثاني في تزوير الانتخابات واسقاط المعارضة آنذاك، مؤكداً أن شهاب اختار شارل حلو للرئاسة، وأنه، أي لحود، كان يقدم تقارير يومية عما يجري في البلاد الى شهاب، مما جعل حلو يحمل في داخله عقدة "الشهابية" وينتظر المناسبة للانقضاض عليها، وهذا ما تحقق له في نجاح "الحلف الثلاثي" آنذاك في انتخابات 1968 النيابية. يحمّل لحود هذا الحلف المسؤولية في دفع البلاد الى الحرب الاهلية لاحقا لأن نجاحه كان "مقدمة لتهديد المعادلة اللبنانية التي سعى شهاب طوال عهده الى تركيزها على قاعدة التوازن والاعتدال".
يمر لحود بالعلاقة مع المقاومة الفلسطينية وسلوك الاجهزة الامنية وصراعات عام 1969 التي انتهت بتوقيع اتفاق القاهرة الذي يتحمل قائد الجيش آنذاك اميل البستاني مسؤولية توقيعه خلافا لتوجهات رئيس الجمهورية وقيادة المخابرات، وانما لأهداف خاصة بالبستاني الذي كان يطمح ويخطط لأن يكون رئيسا للجمهورية. كما يأتي على تفاصيل فشل المكتب الثاني في ايصال الياس سركيس الى الرئاسة عام 1970 فلا ينكر ارتكاب الجهاز اخطاء في سوء التقدير. اخيرا يذكّر لحود بطموحاته الدائمة لأن يكون قائدا للجيش، حيث فشل في تحقيق هذا الحلم في عهد سركيس، كما فشل ايضا في اقناع امين الجميل بإيكال هذا المنصب اليه.
المقابلة الاخيرة كانت مع الضابط محمود مطر الذي "كان يحلم بأن يكون من مجموعة ضباط وعسكريين تشارك في عملية انقاذية ترسخ الولاء للوطن وتجعل للبنانيين جذورا عميقة في وطنهم بدل تثبيت هذه الجذور لدى المرجعيات الطائفية والمذهبية". ارتبط اسم مطر بقضية خطف طائرة الميراج التي جرى الاعداد لها بناء على طلب المخابرات السوفياتية التي كانت تريد الطائرة لمعرفة اسرارها التقنية. يعدد الاسماء المشاركة، وصلاته بالقيادة العليا للجيش التي اتفق واياها على الذهاب الى النهاية في لعب الدور المطلوب منه، ثم يشير الى فشل الخطة في لحظة محددة من سيرها. اثيرت زوبعة كبيرة حول العملية واتخذت ابعادا مست العلاقات السوفياتية - اللبنانية في وقت كان السوفيات حلفاء العرب وداعميهم في وجه اسرائيل، مما دفع بالسياسيين العروبيين الى اعتبار الموضوع برمته لعبة من العاب المخابرات الاميركية وأحد عملائها الذي هو محمود مطر. في اي حال، جرت لفلفة الموضوع واغلق الملف بعد فترة قصيرة وافرج عن المتورطين، مما ابقى العملية في دائرة الالغاز التي لم ينكشف النقاب عنها حتى اليوم.
تشكل مقابلات شربل احدى الوسائل في معرفة محطات من السياسة اللبنانية مروية على السنة بعض صانعيها، فتقدم معلومات ووقائع يجهل اللبناني الكثير من تفاصيلها، مما يضعها في خانة كتابة التاريخ.
خالد غزال
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد