نتنياهو يحوِّل تحريك التسوية إلى فرصة «استيطانية»
عندما تلمس إسرائيل أن توسعها الاستيطاني لن يترتب عليه أي أثمان مؤلمة، وعندما تلحظ الإدارة الأميركية أن التوصل إلى صيغة تشرعن التوسع الاستيطاني تحت شعار «كبحها»، لا يربك سياساتها في المنطقة، لن يكون مفاجئاً الحديث عن مساعي لبلورة تفاهمات «استيطانية» كجزء من صفقة مساعي تحريك التسوية.
في الواقع، ليس ذلك سوى محاولة جمع بين تنظيم التوسع الاستيطاني والاستمرار في الترويج لوهم التسوية تفادياً لانهيار معسكرها داخل الشعب الفلسطيني. وفي هذا الإطار، تعامَلَ رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، مع زيارة مبعوث الرئيس الأميركي، جيسون غرينبلات، إلى المنطقة، على أنها فرصة ينبغي استنفادها بما يخدم عملية التوسع الاستيطاني.
وبلحاظ الرؤية الإسرائيلية للواقع الفلسطيني والإقليمي والدولي، تلتزم القيادة السياسية في تل أبيب بأولوياتها التي تقوم على مواصلة سياسة تهويد الأرض وبناء المستوطنات وتخليد الوضع القائم، بأي مفهوم أو صيغة كانت، وصولاً إلى انتزاع شرعية عربية وفلسطينية (سلطوية) لهذا الواقع.
لم تكتف القيادة الإسرائيلية بسياسة فرض التوسع الاستيطاني، في كل المناخات السياسية والأمنية، بل استطاعت أن تضع رام الله بين خيارين: الاستيطان في ظل الجمود السياسي والتفاوضي، أو قبول الاستيطان كثمن للقبول بالمفاوضات. وإذا ما حدث يوماً إعلان تجميد استيطاني ما، يكون شكلياً، كما في محطات سابقة.
عادة، يُسوّق لأي صيغة تنطوي على استمرار التوسع الاستيطاني عبر الادعاء أن الوضع الحكومي في تل أبيب هش، لذلك ينبغي تقديم المزيد من «التضحيات» من أجل تجنّب اهتزاز الحكومة الإسرائيلية، أو حتى سقوطها، عبر مساعدة رئيسها، نتنياهو، على إقناع شركائه في الحكومة بالتنازل الذي تريد أن تدفعه إسرائيل عبر الجلوس على طاولة المفاوضات! والقبول ببحث عدد من القضايا التي من الممنوع بحثها أصلاً، في نظر اليمين المتطرف.
الرشوة المطلوبة، في هذا السياق، شرعنة التوسع الاستيطاني، هذه المرة تحت شعار «كبحه»، في موازاة مساعي تحريك عملية التسوية. والأكثر استفزازاً أيضاً، أنه مطلوب من الطرف الفلسطيني تقديم المزيد كجزء من خطوات بناء الثقة بين الطرفين، حتى يتمكن نتنياهو من تسويق المفاوضات داخل حكومته، وهكذا نجح الأخير في تحويل «البناء الاستيطاني» إلى جزء أساسي من جدول أعمال اللقاء بينه وبين المبعوث الأميركي الذي يفترض أن مهمته هي دراسة سبل تحريك التسوية وآفاقها.
يبدو أن المبالغة الإسرائيلية في طروحاتها الاستيطانية دفعت إدارة دونالد ترامب إلى الطلب من نتنياهو، كما أوردت صحيفة «هآرتس»، تقديم عرض «يتضمن كبحاً جدياً للبناء في المستوطنات... في حين أنه (نتنياهو) يحاول تجنّب أي مواجهة مع ترامب ومع قيادة المستوطنين».
وتبلور هذا الواقع بعدما طلب الرئيس الأميركي منه «الكشف عن احتياجاته، بشأن المستوطنات، وما يمكنه عمله من أجل كبح البناء»، الأمر الذي وضع نتنياهو في مأزق لا يعرف كيف يخرج منه. وسبق أن أوضحت تقارير إسرائيلية أن نتنياهو لم يعد يقبل بتجديد تفاهمات شارون – بوش، التي شرعنت البناء في الكتل الاستيطانية الكبرى، وبات يطالب بأن يكون البناء في داخل «منطقة نفوذ المستوطنة، التي هي أوسع بكثير من مساحة المنطقة المبنية».
في المقابل، ينبغي الإقرار بأنه لولا الرهان على فعالية السلطة في قمع أي تحرك شعبي ومُقاوِم في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية الاستيطانية، وغيرها من صور العدوان، ما شهدنا هذا القدر من اللامبالاة الإسرائيلية بالرأي العام الفلسطيني.
ويأتي الرهان الإسرائيلي على فعالية دور السلطة بما يخدم أمنها، في موازاة فشلها في استدراج عروض ترضية تعزز مكانتها وسط جمهورها على الأقل، عبر إظهار المزيد من التمسّك بـ«الواقعية» الانبطاحية، والالتزام المخلص بعملية التسوية، والتخلي الطوعي عن أبسط أوراق الضغط. والسبب بكل بساطة أن السلطة ــ من منظور إسرائيلي ــ لا تقوم إلا بواجبها الوظيفي الذي هو مبرر وجودها.
هكذا تتبدد كل الأوهام التي من أجلها تخلت السلطة عن الخيارات التي كان يمكن أن تعوّض ولو قدراً من الوقاحة الأميركية والإسرائيلية، وآخرها بلورة تفاهمات تشرعن سياسة التوسع الاستيطاني كجزء من مساعي تحريك التسوية... مع أن أكثر من يعبّر عن فعالية الخيارات البديلة لدى الطرف الفلسطيني هو الأجهزة الإسرائيلية نفسها، ويتجلى ذلك في التحذير المتكرر من الإقدام على خطوات تؤدي إلى اتساع نطاق الانتفاضة في الضفة المحتلة، بما يؤدي إلى خروج الأمر عن سيطرة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية والفلسطينية على حدّ سواء.
علي حيدر
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد