جيمس جويس: أحد عمالقة الرواية في القرن العشرين
جيمس أغسطين آلويسيوس جويس (1882ـــ1941) James Augustine Aloysius Joyce أحد عمالقة الأدب الذين كتبوا بالإنكليزية وأرفعهم شأناً في مجال الرواية الحديثة في الأدب الأوربي والعالمي أيضاً. وهو من أصل أيرلندي يذكر اسمه مقترناً بأسماء دستويفسكي وتولستوي الروسيين وكونراد البولوني المولد وكافكا التشيكي النمسوي وبروست الفرنسي، وولف الإنكليزية وتوماس مان الألماني.ولد جويس لعائلة كاثوليكية في رَثغَر Rathgar إحدى ضواحي دبلن، وكان الابن الأكبر لأبيه جون جويس وأمه ماري جين مَري Mary Jane Murray. وكان والده مبذراً، لا يثبت في عمل، ومثل الكثيرين من الأيرلنديين شغوفاً بالشراب، لذا كانت العائلة في ضائقة مالية مستمرة. ومع ذلك فقد كانت عائلة سعيدة، وكانت أمه تعزف على البيانو وتغني الأوبرا والأغاني الشعبية الأيرلندية، وهي مواهب أثرت في الابن. كانت نشأة جويس في دبلن في أوقات عصيبة؛ فحكم الملكة فكتوريا في لندن كان يلفظ أنفاسه الأخيرة والعداء بين الكاثوليك والبروتستنت يشتد، والاحتلال الإنكليزي مستمر، والانتفاضة الشعبية ضد الاحتلال في الجزيرة الخضراء المسالمة على الأبواب، وعلى الرغم من يفاعة جويس فقد كان حسه الوطني ملتهباً، وكان تشارلز بارنل Charles Parnell، الزعيم الوطني وأمل أيرلندة، مثَله الأعلى. وبسبب المؤامرات التي حاكها الإنكليز وأعداء بارنل الشخصيون ضده، وبسبب خيانة تيموثي هيلي Timothy Healy أقرب الناس إليه كتب جويس، وهو في التاسعة من عمره، قصيدة مفعمة بالحماس، لكن تسودها مسحة من خيبة الأمل والإحساس بالمرارة بعنوان «وأنت أيضاً يا هيلي» Et tu, Healy عام 1890. وتوفي بارنل في العام التالي، وكان في نظر جويس الشهيد الضحية. وسيظل موضوع الخيانة، بشتى أشكالها الشخصية والعامة، يقض مضجعه ويبقى هاجسه في الكتابة.تولّد باكراً لدى جويس الشعور باليأس من الصراعات التي تشغل أيرلندة وتفنيها، فهي تفترس أولادها، ولا حاجة لإرسالهم كي يقدموا طعاماً على الموائد الإنكليزية، كما كان اقتراح جوناثان سويفت Swift بأسلوب السخرية اللاذع في «اقتراح متواضع» A Modest Proposal.هُيئت لجويس الفرصة للانتساب إلى أفضل المدارس اليسوعية في دبلن، حين سمحت ظروف العائلة المادية، حيث قرأ أعلام الفلسفة والأدب من سقراط وتوما الأكويني ودستويفسكي وتولستوي إلى نيتشه وزولا وستندال وفلوبير، إلا أن إبسن كان رائده الأول، وتشكلت في ذهن جويس الشاب نظرية خاصة في علم الجمال. وعند دخوله الجامعة في يونفرستي كولدج في دبلن عام 1898 كانت شخصيته قد تبلورت، وقطيعته الكاملة مع الكنيسة أدت إلى القطيعة مع العائلة، وإلى المنفى الاختياري في عام 1904.درس الآداب واللغات وكان شديد الحماس للمسرحي النروجي هنريك إبسن، وتعلم النروجية القديمة ليتمكن من قراءة النص الأصلي لمسرحية «عندما نستيقظ (نبعث) نحن الموتى» When We Dead Awaken من عام 1899. ودخل مجال النقد الأدبي حين نُشرت له مقالة في دورية لندن «فورتنايتلي ريفيو» Fortnightly Review حول تلك المسرحية، وأيضاً حين ألقى محاضرة أمام الجمعية الأدبية والتاريخية في الجامعة حول إبسن وشموليته، وضع فيها جويس منهجه الخاص.أيقن عند تخرجه في الجامعة عام 1902، أنه كي يتمكن من الكتابة لابد له من مهنة أخرى تمولها، فرحل إلى باريس لدراسة الطب إلا أنه ما لبث أن عاد لتعذر ذلك ولمرض والدته ثم وفاتها. التقى نورا بارنَكل Nora Barnacle وأقنعها بالرحيل معه، فغادرا دبلن عام 1904 واستقرا بداية في بولا Pola في إيطاليا، ثم انتقلا إلى تريسته وظلا فيها حتى عام 1915، وولد لهما في هذه المدة طفلان هما جورج ولوسيا. وبعد اندلاع الحرب العالمية الأولى اضطرا إلى مغادرة تريسته إلى زوريخ، ثم رحلا عام 1920 إلى باريس التي كانت معقلاً من معاقل الفكر في حقبة ما بين الحربين ومركز تجمع للأدباء والفنانين المغتربين من جميع أنحاء أوربة والولايات المتحدة. واضطرا عند نشوب الحرب العالمية الثانية إلى النزوح عن باريس إلى زوريخ وظلا فيها حتى وفاة جويس هناك. عانى جويس في أثناء هذه المدة الحافلة بالحروب والتنقلات والكتابة مرضاً في عينيه، سبب له العمى الكلي في بعض الأحيان، وخضع لعدد من العمليات الجراحية. بيد أن ذلك لم يؤثر في روحه المعنوية وعمله، بل كتب بعض أكثر مؤلفاته تفاؤلاً. كان أيضاً تحت وطأة العوز المادي ودائم القلق حول صحة ابنته التي بدأت تظهر لديها بوادر انفصام الشخصية، مما اضطره في النهاية إلى إدخالها مصحاً للأمراض النفسية.كان إبداع جويس الرئيسي في النثر، فهو لم ينشر في السنوات العشر الأولى التي أمضاها خارج أيرلندة سوى مجموعتين شعريتين تتألف الأولى من ست وثلاثين قصيدة بعنوان «موسيقى الحجرة» (1907) Chamber Music، والثانية كتبها بعد عشرين عاماً بعنوان «قصائد، الواحدة ببنس» Pomes Penyeach، في حين كتب ما بين هذين الديوانين ما أسماه «الظواهر» Epiphanies، وهي سلسلة من اللوحات تبدو فيها قدرته على الملاحظة السريعة الدقيقة لسمات وخصائص وأشخاص وتقديمها كما يراها هو من منظوره الشخصي. وكان قد بدأ في عام 1903 كتابة المسودة الأولى لروايته «ستيفن البطل» Stephen Hero، إلا أنه توقف عن إتمامها ليكتب بعض القصص القصيرة لمجلة «آيريش هومستيد» Irish Homestead لم ينه سوى ثلاث منها تحت الاسم المستعار ستيفن ديدالُس Stephen Dedalus. وكلتا هاتين المحاولتين المحبطتين قادتا إلى اثنين من أهم مؤلفاته. فالقصص القصيرة صارت نواة «أهالي دبلن» (1914) The Dubliners قدم فيها المؤلف المدينة وسكانها، وما كانت سوى مرآة لحياته الخاصة. أما «ستيفن البطل» فقد أصبحت «صورة الفنان في شبابه» (1916) Portrait of the Artist as a Young Man، وهي سيرة جويس الذاتية. فشخصياتها وحوادثها مستمدة من ذاكرة الطفولة وأيام المدرسة والجامعة، وتعالج الحب والكراهية والإيمان والإلحاد، بثقة بالنفس تصل إلى حد الغرور، ولا تكون إلا في الشباب قبل أن يدب الشك في النفوس. وتلك هي الشخصية الرئيسية في الرواية، شخصية ستيفن ديدالُس أي جويس، الفنان والبطل. ونشر أيضاً مسرحيته الوحيدة «المنفيون» (1918) Exiles حلل فيها مشاعر المنفى والعودة، الغيرة والإخلاص، والدوافع الغريزية التي تحدد العلاقات بين زوج وزوجته وعشيقها. وكان الكاتب قد بدأ في الوقت ذاته العمل على كتابة الفصول الأولى من أضخم مؤلفاته شكلاً ومضموناً «أوليس» (1922) Ulysses.
ظلت فكرة كتابة رواية يقوم بناؤها على «الأوديسة» تجول في ذهن جويس سنوات عدة. وعندما بدأت الدورية الأمريكية «ليتل ريفيو» Little Review تنشر مقتطفات مسلسلة منها أثارت زوبعة ما لبثت أن أدت إلى حظرها في الولايات المتحدة في عام 1920، أي قبل عامين من نشر المؤلّف كاملاً، وحصل ما كان يخشاه جويس، فقد كان أسر لصديقته وناشرته هارييت شو ويفر Harriet Shaw Weaver أنه يخشى أن تعد أعماله ماجنة، ولن يجرؤ أحد على نشرها في بريطانية أو الولايات المتحدة، فنشرتها سيلفيا بيتش Sylvia Beach في باريس. وكانت ردود الفعل متضاربة بين القراء والنقاد على حد سواء، إلا أن جويس صار مشهوراً، مثلما حصل مع مبدع آخر هو بايرون عند نشره «مسيرة حج هارولد الشاب» The Pilgrimage of Childe Harold قبل ما يقارب القرن، وكلاهما كان ثائراً متمرداً رافضاً الدوغمائية وقادراً على التأثير في محيطه.لم تكتمل لدى جويس الجرأة على مقاربة موضوع هوميروس إلى أن حان الوقت وولد ليوبولد بلوم Leopold Bloom بطل، أو لا بطل anti-hero، الرواية. وباستثناء بلوم هناك بنيلوبه Penelope في شخص زوجته مولي Molly، وستيفن ديدالُس الذي يصبح ستيفن تِلِماخوس ـ جويس ـ بلوم، ويجوبوا معاً شوارع وحانات ومواخير دبلن بحثاً عن شيء ما، ربما بحثاً عن الذات، كما تاه أوليس (أوديسيوس) عشر سنوات في أطراف البحر المتوسط بحثاً عن نفسه ووطنه إيثاكه Ithaka، كل هذا في نهار يوم واحد: 16 حزيران 1904. وبلوم هذا، وهو محصّل إعلانات لجريدة في دبلن، هو يهودي وزوج مخدوع، أما زوجته مولي فهي أبعد ما تكون عن بنيلوبه. وتبدأ الرواية مع مغامرات بلوم وستيفن، وتنتهي بالأفكار والخواطر التي تجول في ذهن مولي وهي في السرير من خلال ثماني فقرات مستمرة من دون علامات ترقيم وبلغة موسيقية عذبة لا تختلف كثيراً عن لغة الشعر المرسل blank verse. واستعمل جويس أسلوب المناجاة أو المونولوج الداخلي (ما يسمى بتيار الوعي stream of consciousness) إلا أنه طوره إلى درجة الكمال. ويعتمد هذا الأسلوب على حركة الفكر التلقائية وتداعي أفكار free association شخصية ما، فلا منطق ولا نحو ولا ضوابط لغوية ولا تسلسل زمني للأحداث. واللغة هي لغة عالم الأحلام، وتمتزج أيضاً اللغات ببعضها البعض. وقد قال جويس نفسه عن «أوليس» بأنه كتبها في ثمانية وعشرين فصلاً وبثمان وعشرين لغة. وهو يبتكر في كثير من الأحيان التعابير والجمل والأفعال؛ فاسم شرلوك هولمز يصبح لديه صيغة فعل، كما أن هناك كلمة لا مغزى لها، سوى وقعها الموسيقي، مؤلفة من مئة حرف.
أراد جويس في الأصل أن يكتب محاكاة ساخرة للأوديسة، إلا أنها مع روح الدعابة والفكاهة فيها تطورت إلى عمل مغرق في الجدية، في نقدها لمظاهر الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية المعاصرة وعبثها. واختياره للأوديسة هيكلاً وبناء لعمله لم يكن عشوائياً؛ فالأبعاد والخيارات والاحتمالات لا تحصى. والبطل فيها ليس محارباً فقط بل سياسياً محنكاً، وقبل كل شيء هو إنسان وليس إلهاً. وأوليس ـ بلوم شخصية غنية قارنها صديق جويس الكاتب الفرنسي فالري لاربو Valery Larbaud بشخصية فولستاف Falstaff في مسرحيات شكسبير حول هنري الرابع، وشبّه جويس بالمؤلف الفرنسي رابليه. إلا أن الرواية لم تحظ بذلك الإعجاب من قبل كتّاب ونقّاد آخرين أمثال وولف وفورستر الذي وصفها بأنها «محاولة عنيدة لتغطية الكون بالقذارة». لكن جويس مهّد الطريق الذي سيسلكه الروائيون من بعده. وظلت «أوليس» محظورة البيع والتداول في بريطانية والولايات المتحدة حتى منتصف الثلاثينات. وعلى الرغم من الإفراج عنها لم يسمح لها بالتواجد على رفوف المكتبات حتى الستينات من القرن العشرين.كتب جويس بين الأعوام 1924-1938 آخر رواياته، وأطلق عليها اسم «عمل قيد الإنجاز» Work in Progress، ونشرت في باريس تحت عنوان «سهر فنيغان» (1939) Finnegans Wake، وهي لا تقل أهمية عن «أوليس»، بل محصلة أعماله السابقة كافة. والمفارقة أن جويس الذي اختار المنفى وقضى معظم حياته بعيداً عن أيرلندة هو الكاتب الذي كرّس وقته وعمله وحياته كلها لها. ووظّف في هذه الرواية كل خبرته ومعرفته واطلاعه على اللغات والأساطير والحكايات الشعبية وقصص الأبطال التي هي نسيج أيرلندة، إضافة إلى الأساطير والملاحم الاسكندنافية، في خدمة هذا العمل، وتظل الخاصية السلتية ـ الغيلية Celtic-Gaelic والروح الفكاهية المرحة هي السائدة. وفي حين تحدث الكاتب في «أوليس» عن نهار واحد من حياة بلوم، وصف في «سهر فنيغان» ليلة واحدة من حياة عائلة إرويكر Earwicker. تبدأ الرواية بنهاية جملة وتنتهي ببدايتها ممثلة حركة التاريخ الدائرية المستمرة، وقد أخذ جويس هذه الفكرة من قراءاته لفلسفة الإيطالي فيكو Vico. والشخصيات الرئيسية في الرواية هي إرويكر وزوجته آنا ليفيا بلورابل Anna Livia Plurabelle، وهي الرمز الأساسي، فهي أيرلندة والأم ونهر ليفي Liffy، عصب دبلن الذي ينساب في عروقها، ومع أولادهما شيم Shem وشون Shaun وإيزابل Isabel يشكلون العائلة النموذجية، العائلة الإنسانية، ونموذج «كل إنسان» Everyman.عايش جويس في زوريخ وباريس وغيرهما من مدن أوربة الحركات الفكرية والفنية كلها؛ من الرمزية والسريالية والدادائية إلى الطبيعية والواقعية والحداثة. ويصبح في روايته الأخيرة تجريبياً إلى أبعد الحدود، ويستخدم فيها ما يقارب ثلاثين لغة. وهو يخرق القواعد والأصول كافة، وتصبح الكلمات طوع أنامله يعجنها ويصوغ منها لغة جديدة، ولم يجرؤ على مثل هذه التجريبية أحد منذ شكسبير. فكلمة «الوجود» existence تصبح «حالة ألم» aiguesistence و«القدر» destiny يصبح «الزوال والعبث» dustiny، وكلمات بودلير «يا شبهي، يا أخي» Mon semblable, mon frère تصبح «يا شيمبهي، يا أخي» My Shemblable, my freer وبهذا الشكل كتابةً.في الوقت الذي كانت الغيوم تتجمع فيه لكابوس الحرب مرة أخرى، وجد جويس نفسه بين أقرانه، من باوند إلى إليوت إلى همنغواي إلى بيكيت، وقد أرسى قواعد حياته وكتابته، ونفذ برنامجه الذي كان قد وضعه لنفسه قبل تخرجه من الجامعة، وحقق الشروط، التي تحدث عنها إليوت، التي يجب أن تتوافر لدى الكاتب ـ الناقد ـ الفنان ومجملها: الإحاطة بحضارة أمته الأوربية، وبحضارة الجنس البشري بأجمعه.ترجم من أعماله إلى اللغة العربية «صورة الفنان في شبابه» (1973)، «أوليس» (1982)، و«أهالي دبلن» (1983).
الموسوعة العربية
إضافة تعليق جديد