لقد أثمرت إقامة فيرّيكيا في حديقة غران باراديسو الوطنيّة[8] في جبال الألب الإيطاليّة كتابًا احتوى فلسفته وتأمّلاته وحِكمه، وهو كتاب “مذكّرات غران باراديسو”[9] الّذي صدر سنة 1997،وفيه أظهر تقديره للطّبيعة باعتبارها مدرسةً استقى منها حِكمته وفضّلها على الثّقافة الأكاديميّة، ودعا إلى التّحرّر من أسوار المؤسّسات الرّسميّة قائلًا:” مثلما ينبغي أن يُسعى وراء الحبّ خارج الزّواج، ينبغي أن تُطلب الثّقافة خارج مؤسّساتها”، كما اعتبر أنّ تلك المؤسّسات تفرز في غالب الأحيان نُقّادًا ولا تُثمر مبدعين، ذلك أنّه “عندما يبدأ النّقد، يتوقّف الإبداع، تمامًا مثلما يركد الإنتاج عندما تكثر عمليات الجرد”.
يُعدُّ الصّيد هواية أناكليتو فيرّيكيا الأثيرة، لكن أيّ صيدٍ؟… يقول:” أحبّ نوعا واحدًا من الصّيد، وهو صيد الأفكار. التّجوال بين الجبال، والتحّديق في الأيائل والصّخور… غالبًا ما يدرّب هذا كلّه العقلَ ويملأ حقيبة الرّوح. إذا كانت الحشرة أكثر بلاغة من الكتاب، أُغلق الكتاب وأراقب الحشرة”. هكذا يتصيّد الفيلسوف الإيطالي الأفكار ويقتنص الخواطر على سفوح جبال الألب وصخورها، بين الأيائل والطّيور. لا يتردّد في الإعلان عن تفضيله لكتاب الطّبيعة على كتب الفلاسفة، يقول:” بالنّسبة إلى العقل الفلسفيّ، مراقبة طائر جائع يسترق النّظر إلى عشّ هو أكثر بلاغة من كتب هيغل أو هايدغر”.
قد توحي علاقة فيرّيكيا بالطّبيعة لأوّل وهلة بنزعة رومانسيّة متفائلة وحالمة، لكنّ فلسفته مغايرة لذلك تمامًا، فهو يعتبر أنّ “التّفاؤل هو إعتامُ الرّوح”. ثمّة مفارقة طريفة بخصوص اسم غران باراديسو، فهو يعني حرفيًا “الفردوس العظيم”، لكنّ فيرّيكيا يرى أنّ “الجنّة صورة خادعة مرسومة على سقف الجحيم”. إنّ فيلسوفنا هو سليل المتشائم الإيطاليّ الأعظم جاكومو ليوباردي[10] (1798-1837) ووريثه الفكري، وأفكاره حول الطّبيعة الإنسانيّة وطبيعة الحياة لا تقلّ يأسًا أو مأساويّةً أو تشاؤمًا. لا يرى فيرّيكيا العالم مكانًا صالحًا، ذلك أنّ “الحياة مأساة يتمّ تمثيلها كملهاة”، و”العالم مُلكٌ مشترك بين الشرّ والجنون”. إنّ العالم سلسلة من الأحداث والوقائع المرعبة، و”كلّ نهاية رعبٍ ليست سوى حلقة أخرى من الرّعب الّذي لا نهاية له”. يتساءل فيرّيكيا:” ماذا لو كفّر المسيح عن خطايا أبيه بدل أن يكفّر عن خطايا الإنسان؟ إنّ خلق مثل هذا العالم، بغضّ النّظر عن كيفيّة رؤيتك له، لا يبدو فعلا خيّرًا”.
لا يخفى على القارئ تأثّر فيرّيكيا بالفيلسوف الألمانيّ آرثر شوبنهاور، ذلك أنّه يتبنّى بوضوح نظريّته في ميتافيزيقا الإرادة وأخلاقيات الرّحمة ورفض التّناسل البشريّ. يقول الفيلسوف الإيطالي:”إنّ خصلة العشب الّتي تنبثق بين شقوق الجدران الجافّة والإنسان الّذي يجتاز مسار الحياة الوعر مدفوعان بالقوّة الميتافيزيقيّة نفسها”، ويرى أنّ الحبَّ أداةٌ من أدوات تلك القوّة العمياء الّتي تسدل على بصيرة الإنسان حُجبًا وتغرقه في الوهم، إنّ “الحبّ مادّة مهلوسة بإمكانها جعلنا نرى العِجلة حوريّة والدّجاجة نسرًا”. يصف فيرّيكيا عنف الغريزة الجنسيّة قائلًا:” إنّ الحبّ هو أكثر العواطف الإنسانيّة استبدادًا وعنفًا، يُرمز إليه بـ”كيوبيد”[11] الملاك الصّغير الّذي يطير في الهواء ويمسك سهمًا. يا لفداحة الخطأ. ينبغي أن يُرمز إليه بدلا من ذلك بمقياس ميركالي، لأنّ الحبّ في أعلى درجات حدّته، يُحدث دمارًا أكبر من الزّلزال ويترك أنقاضًا أكثر. لحسن الحظّ أنّه لا يدوم طويلًا، وإلّا لدُفِنّا تحت تلك العاطفة. لن تبقى على الإنسان أونصة لحم إذا كانت له عاطفة أخرى تساوي في حدّتها الغريزة الجنسيّة”.
يرفض فيرّيكيا الإنجاب رفضًا جازمًا، ولم يتزوّج قطُّ، يفسّر موقفه قائلًا: “لم أتزوّج رحمةً بالأطفال الّذين كان بإمكاني إنجابهم”، ذلك أنّه يعتبر الولادة أصل الكوارث كلّها، يقول:” في الواقع، إنّ هذا الخزي كلّه مشتقُّ من كوننا وُلدنا، وعليه فإنّ الولادة هي الأفدح من بين النّكبات جميعها”، ويعتبر أنّ “سوء حظّ الّذين لم يولدوا قطُّ الوحيد هو عدم معرفتهم بحُسن حظّهم”، وما الإنسان في نظره سوى “رصاصة يصوّبها فَرْجُ المرأة نحو القبر”.
شذرات أخرى:
(جميع الشّذرات الواردة في هذا النصّ مقتطفة من كتابيْ “مذكّرات غران باراديسو” و”رابسوديّة فيينا: أماكن ومشاهير من عاصمة الدّانوب”[12])
- النّباتات: أفهم جيّدًا لماذا فضّل بيتهوفن النّباتات على النّاس. النّباتات لا تتحدّث ولا تزعجك بمشاكلها.
- ما بعد الموت: لا تخبرني أنّ رماد الإنسان، رغم أبّهة المقابر، مختلف عن رماد قطّة أو ثعلب. في أوهامنا فقط تتميّز المقابر عن فِراش الأوراق الجافّة.
- يقول الموتى للمارّين أمام المقبرة: “إلى أين المفرّ، أيّها البائسون، إذا كان مستقرّكم هنا؟”
- نفكّر رأسًا في الأفعال الإنسانيّة عندما نسمع عن الوحشيّة.
- إنّ المحصّلة النّهائيّة لسجلّ حسابات حياتنا، سوف تستقرّ دومًا في المنطقة الحمراء، لأنّ المخرجات تتجاوز بكثير الإيرادات. وليقل المتفائلون ما يريدون.
- من السّهل أن تنزع الأصفاد عن العبيد، لكن من الصّعب أن تحرّرهم.
- تعمل الديكتاتوريّة على إلجام النّاس، أمّا الديمقراطيّة فتجعلهم يتصارعون.
- إنّ تشريح الأحياء جريمة مروّعة في نظري، يا لهذا الإنسان: أين كُتب أنّ للإنسان الحقّ في الحياة أكثر من الكلاب أو الوعول.
- العلاقات الإنسانيّة: تبوح الأسلاك الشّائكة وشظايا الزّجاج على جدران الممتلكات الخاصّة بالكثير عن العلاقات الإنسانيّة.
- تقدّميون، رجعيّون، محافظون: هل الحياة شدٌّ وجذبٌ؟ يضحك الفيلسوف من هذه الأمور.
- يعدّ الحبّ الجنسي الطّريقة المثلى لتحطيم صداقة الرّجل للمرأة بشكل لا يمكن إصلاحه.
- إنّ زهرة اليقطين أفضل ما يرمز إلى الغرور في جميع أشكاله بما في ذلك غرور الشّهرة الأدبيّة، إنّها تعيش ليومٍ واحدٍ فقط، ثمّ تذبل وتموت.
- الموت: ربّما تنبّأت الطّبيعة بأنّ الأبديّة لا تُطاق، وأرادت أن تدبّر من خلال الموت، تغيير الممثّلين على مسرح العالم.
- سنندم أيضا على الجحيم المفقود.
- الحيوانات جميعها، بما فيها الحمير، تفعل ما تأمر به فينوس، لكن لديها من الذّوق ما يثنيها عن ذكره. أمّا الحيوان الإنساني فيؤلّف عنه أكداسًا من الرّوايات.
- لمْ يُقتل أو يُحرق أحدٌ حيًّا باسم بوذا عندما كانت أوروبا ملطّخة بالدّماء باسم المسيح.
- رأيت أيلًا وسط الغابة جعلتني عذوبته أتصالح مع العالم.
******
[2] Guido Ceronetti.
[3] Mario Andrea Rigoni.
[4] Arthur Schopenhauer.
[5] Friedrich Nietzsche.
[6] Georg Christoph Lichtenberg.
[7] Gran Paradiso.
[8] Parco nazionale del Gran Paradiso.
[9] Diario del Gran Paradiso (Torino: Fogola, 1997).
[10] Giacomo Leopardi.
[11] Cupid.
[12] Rapsodia viennese: luoghi e personaggi celebri della capitale danubiana (Roma: Donzelli, 2003).
إضافة تعليق جديد