الكرد الحائرون في سوريا.. هل حسموا أمرهم؟
أحمد الدرزي:
كانت التّصريحات التي أطلقها جميل باييك، الرجل الثاني في حزب العمال الكردستاني، بمثابة الإشارة إلى بدء تغيير المسار السياسي للكرد في سوريا، وإعادة تموضعهم من جديد مع السياق التاريخي الطبيعي الذي رسمه عبد الله أوجلان، بما ينسجم مع العلاقات الصميمية بين دمشق وحزب العمال الكردستاني.
أتاحت أجواء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الفرصة لعبدالله أوجلان الَّذي يتمتع بشخصية “كاريزمية” لتشكيل حزب سياسي في تركيا في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 1978 في ناحية “لجه” التابعة لديار بكر”آمد”، ثم التزم الحزب بالنضال العسكري في قفزة نوعية في 15 آب/أغسطس 1984، وهو يدرك أنَّ المسألة الكردية لا يمكن حلها إلا من خلال التحالف الوثيق بين كل القوى المناهضة للهيمنة الإمبريالية وخوض الصراع العسكري ضد الدولة التركية، باعتبارها امتداداً للهيمنة العالمية، ثم ما لبث أن لجأ إلى سوريا بعد الانقلاب العسكري في تركيا في العام 1980، فما كان من دمشق إلا أن تلقّفت هذه الفرصة، وتبنّت بشكل كامل حزب العمال الكردستاني، وضمن تحالف وثيق امتد طويلاً، إذ وفّرت الدولة السورية كلّ إمكانيات الدعم اللوجستي له في مواجهة تركيا، التي كانت وما زالت تعتبر تهديداً مستمراً لسوريا، بحكم انتمائها إلى منظومة الرأسمالية العالمية وحلف الناتو من جهة، وطموحاتها بالعودة إلى كتابة تاريخ المنطقة بصيغة عثمانية جديدة من جهة ثانية، إضافة إلى تهديداتها “المائية” المستمرة.
لم يمتلك حزب العمال الكردستاني مشروعاً سياسياً في سوريا منذ التأسيس، على اعتبار أن مشروعه السياسي انحصر في تركيا فقط، لوجود الكتلة الأكبر من الكرد فيها، واعتبارها أساس مشكلة الكرد، ولَم تكن تعني له سوريا سوى قواعد دعم وانطلاق خلفية لزعزعة كيان الدولة التركية، ما دفع دمشق إلى تقديم الدعم الكامل له على مستوى الساحة الكردية في سوريا، مقابل بقية الأحزاب الكردية الأُخرى التي تشكل تهديدات مستمرة، بحكم ارتباطها بأربيل والأطروحة القومية المهددة لوحدة سوريا، إذ كانت دمشق تعتقد بأنظمتها السياسية المتعاقبة – فترة الاحتلال الفرنسي وحتى الآن – أنَّ الاعتراف بالقومية الثانية وقبول الحكم الذاتي أو الإدارة الذاتية ليس سوى مقدمة لازمة للتقسيم في ما بعد.
استمرَّت العلاقة الجيدة والمتميزة بين حزب العمال الكردستاني ودمشق، رغم تغير موازين القوى الدولية نتيجة سقوط الاتحاد السوفياتي وهيمنة قطب وحيد على العالم حتى العام 1998، إذ تعرَّضت دمشق بسبب انكشافها الدولي لضغوط عسكرية من قبل تركيا، ما اضطرها إلى التخلي عن أوجلان وخروجه من سوريا، ومن ثم اعتقاله من قبل أجهزة استخبارات إسرائيلية وأميركية وتركية.
كان لاتفاق أضنة في العام 1998 دورٌ أساسيٌ لغياب حزب العمال الكردستاني عن الواجهة السياسية للحركة الكردية، ليعود إلى الظهور بحلّة سورية جديدة بعنوان “حزب الاتحاد الديمقراطي” في العام 2003. ولَم تكن هذه التسمية الجديدة إلا لتفادي العقوبات التي وضعت على “حزب العمال الكردستاني” من قبل الولايات المتحدة. وقد رافق ذلك تحولات متجدّدة بشأن نظرته إلى حل المسألة الكردية، فتم تجاوز المسألة القومية واعتبار الحل السلمي والديمقراطي هو الأفضل.
ومع ارتفاع سوية العلاقات التركية السورية، ازدادت ضغوط دمشق على حزب الاتحاد الديمقراطي، وبوسائل شتى، من دون الوصول إلى الصدام أو الحرمان الكامل من العمل، منذ العام 2004 إلى نهاية العام 2010، إذ بدأت بوادر ظهور انفراجات في العلاقة مع الحزب، بعد إدراك دمشق طبيعة الاستهدافات المرسومة لها، واحتياجها لكلّ القوى التي يمكنها أن تساندها في مواجهة أكبر اجتياح إقليمي ودولي في تاريخها.
بعد اندلاع حروب ما سمي بـ”الربيع العربي” في العام 2011، كان لحزب الاتحاد الديمقراطي موقف مختلف. يستند هذا الموقف إلى تفاهم ضمني لم تتضح تفاصيله بعد بين دمشق والحزب، كان من نتيجته قيام دمشق بتقديم دعم عسكري كبير له بعد أن أسَّس “وحدات حماية الشعب”، وذلك لمواجهة المشروع التركي في سوريا، ما أتاح له فرصة كبيرة للإمساك بكامل الساحة السياسية الكردية.
وبقي هذا التفاهم مستمراً إلى أن حاصر تنظيم “داعش” مدينة عين العرب (كوباني) بتاريخ 13أيلول/سبتمبر 2014، مع عدم قدرة دمشق على تقديم الدعم اللوجستي للكرد، ما دفعهم إلى التواصل عبر منظمات الأمم المتحدة مع الولايات المتحدة، ما أدى إلى انخفاض مستوى التواصل والتفاهم مع دمشق، لترتفع معها سوية الطموحات السياسية، لتصل إلى طرح “مبدأ الفيدرالية” كنظام سياسي لسوريا، وليتراجع بعدها عن ذلك، للأخذ بمبدأ الإدارة الذاتية وإبطال مصطلح “روج آڤا”.
أدَّى دخول القوات الأميركية غير الشرعي، وبصفته احتلالاً، إلى مناطق شرق الفرات، إلى ارتفاع سوية الطموحات السياسية للحزب، والمراهنة على إمكانية الذهاب إلى حل سياسي مع دمشق، بما يجعل منه شريكاً أساسياً في صناعة القرار السياسي السوري، إضافة إلى الحصول على أكبر حجم من المكتسبات السياسية للكرد في سوريا، بما يتناسب مع قضيتهم، بعد حرمانهم من تأسيس دولة، أسوةً بالعرب والترك والإيرانيين، بعد تمزيقها إثر الحرب العالمية الأولى على يد الدول الغربية المهيمنة.
لم يدرك القادة الكرد خصوصية الحسابات الدولية الكبرى في نظرتها إلى مصالح أمنها القومي، وانعكاس ذلك عليها، فكانت الرسالة الأولى لهم بعد سماح موسكو لأنقرة بالتوغل عسكرياً بيسر ومن دون مقاومة في جرابلس باتجاه الجنوب، في الذكرى المئوية الخامسة لدخول السلطان سليم الأول إلى سوريا في العام 2016، وفي غياب أيّ موقف ممانع من واشنطن، على الرغم من وضوح أهداف العملية المتعددة، وأهمها البدء بالخطوة الأولى لتقطيع أوصال التواصل الجغرافي للكرد في كل الشمال السوري.
على الرغم من وضوح الرسالة الأولى، فإن ذلك لم يجعلهم يدركون ما يُحاك لهم في عفرين، ففضلوا الدفاع عن مشروعهم السياسي، بدلاً من أن يفكّروا في الدفاع عن وجودهم، من خلال السماح للجيش السوري الذي يحمل الشرعية الدولية في الدفاع عن حدود بلده، ما جعلهم يخسرون عفرين، مع تهجير أكثر من 300 ألف من أهلها، إضافة إلى النازحين السوريين، إليها بسبب الحرب، وهم عشرات الآلاف، وهذا الأمر تم تحت أعين واشنطن وموافقتها على ذلك.
وقد تكرّر الأمر للمرة الثالثة تحت أعين الأميركيين ورضاهم، بعد احتلال تركيا لشريط الشمال السوري من مدينة تل أبيض إلى رأس العين، وبعمق تجاوز 30 كم، إثر قرار الانسحاب الأميركي المفاجئ، ومن دون إبلاغ حلفائهم الغربيين، وبطبيعة الحال القادة الكرد.
أصبح من الواضح الآن أنَّ الأميركيين أعادوا رسم استراتيجيتهم القادمة في منطقة غرب آسيا، وهي تستند إلى التخفف من الأحمال المرهقة فيها من دون الخروج الكامل، وتعمل على إعادة تركيب المنطقة بالتوافق والتفاهم مع موسكو، مقابل إبعاد الصين عن الحضور لملء الفراغ بمبادرتها “الحزام والطريق”، مع الاعتراف بالأدوار الإقليمية لإيران بالحدود التي تسمح باستمرار المصالح الأميركية بصيغتها الجديدة، وإعادة ضبط مسار السياسة التركية بما يخدم هذه المصالح.
أدرك القادة الكرد أخيراً أنَّ الجيب الأخير لمشروعهم السياسي في أقصى شمال شرق سوريا أصبح تحت التهديد المباشر لاجتياح تركي جديد مأزوم داخلياً وصحياً، ولا بد من التوجه إلى دمشق مباشرةً، عبر الوسيط الروسي، وبتوصية من واشنطن، التي تتأهب للانسحاب من الشمال السوري، والتي تعمل على تهدئة المنطقة بعد العجز عن استمرار فرض سياساتها على شعوب لم تستطع فهم خصائصها الداخلية.
أدَّى عدم العمل بالقاعدة الذهبية “أولوية الوجود مُقَدَّمة على أي مشروع سياسي” إلى كوارث لا يمكن التنبؤ بنتائجها حتى الآن، وخصوصاً بعد احتلال تركيا لما يقارب 10% من سوريا وتهجير سكانها الأصليين من السوريين الكرد، ولكن أن تأتي متأخراً خَيْرٌ من أن لا تأتي أبداً، فمسار تحرير الشمال السوري طويل، ويحتاج إلى رؤية سورية جديدة حول مستقبلها بما يخصّ السوريين كمواطنين مشاركين جميعاً في الدفاع عن بلدهم ومستقبل النهضة فيه.
الميادين
إضافة تعليق جديد