ماكرون اليوم عند بوتين…وساطة أم تحذير؟
سامي كليب:
أثار الإعلامي الفرنسي نيكولا إينان قبل سنوات قليلة فضيحة دبلوماسية كُبرى حين كشف أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال للرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي في خلال لقائهما في العام 2007 على هامش قمة الدول العشرين في المانيا:” إما أن تُكمل في ما تقوله فأسحقُك، أو تتوقف عن قول هذا وأجعلك ملكا على أوروبا، إن بلدك هو بهذا الحجم (موضحا بأصبعيه) وأما بلدي روسيا فهي بهذا الحجم (فاتحا يديه على مصراعيهما”. وذلك بعد أن أنهى ساركوزي مداخلته عن حقوق الانسان والمثليين جنسيا والقمع في الشيشان ومقتل الصحافية آنا بوليتفسكايا ودور روسيا في العالم.
صحيح أن جان دافيد لافيت مستشار ساركوزي آنذاك نفى الأمر وقال ان الحوار كان جيدا وان الرئيسين تحدثا أيضا عن الشوكولا، لكنه لم ينف وجود” مواضيع مُزعجة في اللقاء”، وكذلك حصل نفي آخر على Sud Radio من قبل الصحافي ميشال دارمون. لكن كل ذلك لم يستطع نفي الأصل وهو أن بوتين كان غاضبا وأسمع ضيفه كلاما قاسيا.
الأمر الآخر هو أن روسيا غالبا ما تُفاخر فعلا بحجمها ودورها، ذلك أن مساحتها الحالية أي بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانسلاخ الكثير من الجمهوريات عنها، تصل الى 17،13 مليون كلم مُربّع، وعدد سكانها تخطى 144 مليونا، بينما مساحة فرنسا 543،940 كلم مُربّع، وعدد سكانها 67،39 مليونا. واذا كان في عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والعِلم ما عاد العدد يهم وإنما مستوى التطور والتحالفات، غير أن الجغرافيا تهمّ كثيرا بوتين الراغب بمنع تمدد الأطلسي الى عمق جغرافيته عبر جمهوريات انسلخت عن الاتحاد السوفياتي وتُعتبر العمق الأمني لموسكو وخلفيتها الاستراتيجية.
اليوم يستقبل بوتين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بصفته رئيسا لفرنسا ولكن أيضا بصفته الأوروبية ذلك أن فرنسا ومنذ مطلع هذا العام تراس الإتحاد الأوروبي. وغداة اللقاء يزور ماكرون أوكرانيا، على أن يتبعه في منتصف الشهر المستشار الألماني الجديد الذي يقال إنه تماما كماكرون يرغبان بالحوار لا بلغة التهديد والوعيد.
الرهان “الماكروني ” كبير وخطير، فالرئيس الفرنسي يتولّى هذه الوساطة في معركة دبلوماسية واستراتيجية شرسة بين الأطلسي من جهة وموسكو وبكين التي جدّدت قبل أيام دعمها لبوتين من جهة ثانية، كما أن ماكرون يذهب الى الكرملين قبل أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية. صحيح أنه في هذه الانتخابات ما زال الأوفر حظا، الا أن مفاجآتها أيضا ما تزال وافرة الحظ. وبوتين يطرح نفسه أحد ملفات الانتخابات الداخلية الفرنسية، ذلك أن جزءا مهما من منافسي ماكرون يدعو للتقارب مع الكرملين وعدم السير في ركب واشنطن.
ولو نظرنا الى داخل الاتحاد الأوروبي نفسه الذي انسلخت عنه بريطانيا، نجد التباينات كبيرة حيال كيفية التعامل مع موسكو، ذلك أن اعتماد بعض الدول الأوروبية بقوة على الغاز الروسي لا يترك مجالا كبيرا للمناورة مهما تعدّدت الوعود ببدائل. هذه مثلا حال المانيا وبولندا على وجه الخصوص.
آخر لقاء جمع بوتين وماكرون كان في روسيا عام 2018. حينها سمع من بوتين قوله :” إن الحوار هو دائما أفضل من المجابهة” وهذا ما يريده بالضبط الرئيس الفرنسي حاليا، فهو قال لصحيفة الأحد الفرنسية :” لقد أكدت المرحلة الحالية إنه حين نقرّر الاّ نتحادث – وهذا كان خيار الأوروبيين في العام الماضي، بينما كنتُ أنا والمستشار الألمانية السابقة انجيلا ميركيل نقترح قمة روسية أوروبية- فنحن لا نستطيع تسوية أي مشكلة، لأنه في هذه الحالة سنترك غيرنا يتحدث باسمنا ( أي واشنطن) وبذلك لا نكون قادرين على المساهمة بضمان أمننا”
واذا كان ماكرون يرى ان الظروف السابقة التي قادت روسيا الى اجتياح روسيا أو الشيشان او انتزاع جزيرة القرم، قد تغيّرت، فإنه يعتبر أن الحشود الكبيرة من الطرفين الروسي والأوكراني عند الحدود، تحتاج الى العمل لخفض وتيرة التوتر عبر الحوار ومنع الصدام المُسلّح .
وكما أن فرنسا قد حرصت طيلة فترة التوتر على القول ، وخلافا لأميركا، إنها لم تر مؤشرات على رغبة روسية في اجتياح أوكرانيا، فإن الرئيس ماكرون أكد مُجددا على ان ما يريده بوتين هو :” توضيح قواعد التساكن بين روسيا والاطلسي والاتحاد الأوروبي ” وهو حاول موازنة الأمور بدقة قبل الوصول الى روسيا مُعتبراً انه لا يمكن لا ي حوار دائم أن يؤدي الى اضعاف أمن أي دولة أوروبية، أكان ذلك بالنسبة لدول البلطيق أو بولندا او أوكرانيا ، وكذلك روسيا التي من حقها الطبيعي أن تطرح مسألة أمنها القومي.
اذا كان الرئيس الفرنسي ذاهبا اذا بقلب مُنفتح تماما على الحوار، واذا كانت مؤشرات الساعات الأخيرة من موسكو وكييف ترنو الى الحوار أيضا، الا أنه من الصعب تماما التوصل الى حل حقيقي ودائما دون شرطين كبيرين، أولهما قبول البيت الأبيض بنتائج هذه الوساطة الفرنسية-الأوروبية، وثانيهما إرضاء بوتين عبر خطوات حقيقية لوقف تقدم الأطلسي صوب حدوده.
الواقع أنه بغض النظر عن كل النتائج، فالعالم اليوم هو في أوج التنافس، ليس بين الخصوم التقليديين فقط وانما حتى داخل الاحلاف، ففرنسا نفسها تحاول منذ فترة غير قصيرة الذهاب صوب أمن أوروبي، أكثر من رغبتها بالبقاء برعاية أطلسية تقودها أميركا. وما قد يهدأ عند الحدود الأوكرانية قد يشتعل مُجدّدا في أماكن أخرى من هذا العالم، الباحث عن مصادر الثروة والقوة تارة بالإغراء ومرّات أكثر بالقوة. لكن ربما موسكو وواشنطن وكييف تحتاج اليوم الى تبريد التوتر، وهي حتما لا تريد حربا. فهل ينجح ماكرون، أم ثمة من يستغل زيارته للقول إنه حمل الإنذار الأخير؟
لعبة الأمم
إضافة تعليق جديد