لن يكون خوف عندما يعرف المرء كيف يموت وأين
"عندما يعرف المرء كيف يموت وأين، فلن يكون هناك خوف": جملة كاشفة، لا تتم استعادتها والتفكير في معانيها الخفية بعين جديدة إلا بعد أن يكون صاحبها قد قرع جرس نهايته بيده، قالها الكاتب السويسري يورغ فدرشبيل قبل عامين ذات مقابلة عندما تحولت روايته "كيلوري... أصوات النفق" الى أوبرا غنائية، يتحدث فيها ركّاب مترو الأنفاق عن موتهم المرتقب. هو دائما الموت، ودائما منطقة الحدود بين الموت والحياة، يتحرك فيها العالم الروائي والشعري لهذا الكاتب السويسري الذي لم تكن هناك جغرافيا محددة يمكن أن تحتوي على كيانه القلق. عاش في كل مكان ولا مكان، بالأحرى في المنطقة التي يسكت فيها الواقع ويتكلم الأدب.
يورغ فدرشبيل، اسم جديد يضاف الى قائمة الأدباء الساموراي، وإن لم يستخدم طريقة الهيراكيري في شق البطن كما فعل الياباني ميشيما، أو يخنق نفسه بالغاز كما فعل كاواباتا، أو يفجّر صدغه برصاصة كما فعل همنغواي أو حاوي، أو يبتلع الحبوب كما فعل الإيطالي بافيزي، أو يعلّق نفسه بحبل كما فعل يسينين، لا. هنا، كما فرجينيا وولف، كانت صفحة نهر الراين هي التي استقبلت الصرخة. فهل تبقى الوسيلة مثل علامة تعجب في نهاية سطر من علامات الاستفهام، حيث ليس أمام الموت غير السؤال الأبكم، وأمام الانتحار زحام من الأسئلة، إذ يبدو موتا مضاعفا وتواطؤا مع الرعب!؟
في مدينة بال، ومع مطلع الستينات، كانت أعين الرواد في بار المدينة الشهير باسم "ريو بار" تُسحَب بقوة مغناطيسية إلى طاولة شاب ثلاثيني، قوي البنية، متمترس خلف ذاته التي لا تخطئ العين حساسيتها وقلقها وثقتها التي تتحول في بعض اللحظات إلى فورة كبرياء. سيد الطاولة التي يجلس إليها، محبّ للمناقشة، بئر شراب، ظاهرة في الفضول، متعذر التحديد، والناس بؤرة محبته واهتمامه الأول (لموتهم ربما). أنجز من فوره مجلّده الأول الصغير، "برتقال وموت"، حيث ظهرت استقلاليته ككاتب، متخطياً أبا الأدب السويسري ماكس فريش، بما جعله لا ينظر اليه كأب روحي، متعلماً بالأحرى من فولكنر وهمنغواي وإدغار ألان بو. أعلنت كتابته، مع مجايليه بول بيتسون، هوغو لوتشر، يورغ شتاينر، أوتو. ف. فالتر، وبيتر بيخسل، عن بزوغ روح الحداثة في الأدب السويسري، وقد أثنى عليه الالماني مارسيل رايش رانيكي كثيرا، وكتبت عنه صحف بلده. هو بدوره كتب النقد السينمائي والمقالات الى الصحف، كأبلغ ما يكون النقد وأكمل ما تكون المقالات، وتلقّى العديد من الجوائز: جائزة الإبداع الأدبي لمدينة زيوريخ، ومثيلتها من مدينة بال، وحصل أيضا على جائزة الإبداع الأدبي من مؤسسة شيلر السويسرية. لم يكن قط رجل موضة في الأدب، ولم يكره شيئا مثل الضجر. رأيناه يرافق لسنوات طويلة المناضلة النسائية إيستر فيلار، في علاقة يمكن استشفاف التناقض والتكامل داخلها: بين فنان مرهف، دائم الشك في قدراته، مسحوب الى أعماقه، وامرأة منطلقة إلى الخارج، نشطة في الدفاع عن الكيان النسوي وحقوق المرأة. كتب الكثير، ووصل عدد مجموعاته القصصية ورواياته الى أكثر من عشرين كتابا، ترجم معظمها الى لغات عديدة، منها: "الحب قوة إلهية"، "جغرافيا الرغبة"، "عودة باراتوغا"، "متحف الكراهية"، "وهم وقمامة"، "كيلوري... أصوات النفق"، و"العمة الأسطورية". صدرت له آخر مجموعة، "قمر بغير مؤشر"، بالتزامن مع عيد ميلاده السبعين. بعدها لم يستطع الكتابة بسهولة بسبب أمراض ليس أسوأها السكري واضطراب الأعصاب، ليتوقف تماما في عاميه الأخيرين مجبرا، ويتحرك بجسمه بين الحقيقة والوهم، هو الذي ما إن يدخل المرء عالمه، لا يعود يعرف بالضبط إن كان يقرأ أو يحلم، وما إذا كانت لحظة القراءة هي أمس أو غد، لكنها ليست اليوم في كل حال.
جاء من دافوس حيث ولد ونشأ، ثم عرفته زيوريخ وباريس ولندن وبرلين ونيويورك، وكانت مانهاتن دائما جزيرة جحيمه وملهمته، فكتب فيها وعنها أفضل أعماله، واحتفت به أوساط نيويورك الأدبية كأحد الأسماء في قائمة أحسن الكتب، ثم عاد إلى بال رجلا سبعينيا ليرمي هيكله المتعب، ومعه سرّه، في الراين، حيث تم التبليغ عن اختفائه وجرى البحث عنه في الوقت الذي حمله التيار الى أحد السدود الى أن اكتشفت جثته امرأة كانت تتمشى في الصباح الباكر مع كلبها يوم الأحد 25 شباط الفائت. كانت لتكون سخرية لو أن تلك المرأة قرأت له يوما كتابا ولم تتعرف اليه، وسخرية أيضا لو لم تكن قرأت له أو عنه أي شيء.
في قصص مجموعته الأولى "برتقال وموت"، التي تدور حوادثها أثناء الاحتلال النازي لباريس في الحرب الثانية، أن البرتقالة على حافة نافذة شاب فرنسي تشير إلى أن الألماني هو جندي هارب وأن خطر الموت لم يعد موجودا. غير أن أول نجاح كبير له كان عام 1969 بكتاب "متحف الكراهية" وهو يوميات ذاتية من مانهاتن يصوّر فيها حياته في نيويورك، مدينة العذاب والكثافة وأشكال الظل، كأنها الإقامة في جهنم. كتابة تسحب القارئ خطفاً إلى لب الحدث، وسط متاهة يلتبس فيها الحس بالزمن، لنكتشف في النهاية ما أراد أن يقوله لنا. في "تيفوئيد ماريا" الذي كان على قائمة أفضل المبيعات في نيويورك عام 1982، نجد ماريا كادوف التي تعمل طباخة في وسط أميركي بورجوازي متحذلق، حاملة فيروس التيفوئيد من دون أن تعرف هي ذلك، ومن دون أن يفتك المرض بها، لكنها تنقل الموت الى الجميع عبر الطعام. بذلك يصبح انتقامها لوضعها الذليل كخادمة لدى حثالة من الأثرياء انتقاما غير واع، وغير متعمد أيضاً. أما في تحفته الروائية "جغرافيا الرغبة" الصادرة عام 1989، ففيها يحتفي عاشق بمؤخرة عشيقته الرائعة الاستدارة، بنقشه "تاتو" عليها يصور خريطة العالم، فكأن ذلك الوشم هو ما ينقص المؤخرة لتصل إلى الكمال، أو أن العالم ينبغي أن يكون على ربوة الجمال تلك.
"عندما يعرف المرء كيف يموت وأين فلن يكون هناك خوف".
ترى، هل كان فدرشبيل على علم بكيفية موته ومكانه، عندما قال جملته تلك؟ وهل تبدّد قلقه اللصيق بكيانه، إن لم نقل الخوف، بعدما خطط لملابسات النهاية؟ من يملك الجواب؟
يوسف ليمود
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد