أدونيس: عودة إلى الظاهرة القبيسية في سورية
- 1 –
«ألف ليلة وليلة»، لا من الخيال، هذه المرة، بل من الواقع. فالمرأة «القبيسية» لا تريد أن تنكر «بطركية» الرجل، ولا هيمنته الذكورية. ولا تُعنى بالتسامح أو المساواة. لا تريد إلا ترتيباً آخر لهذا «البيت» الذي ينتظرها فيه الرجل. الترتيب الذي يُتيح لها أن تنصرف الى شؤون الآخرة، وأن تترك شؤون الدنيا للذكر. ثورة نسائية مضادة تطلع من دمشق، بدعم وتشجيع من مؤسسات «الدين»، ومؤسسات «الدولة»، على السواء.
لتسقط، إذاً، حرية المرأة، حريتها المدنية. ولتسقط المساواة بين الرجل والمرأة. فتلك الحرية «دعارةٌ» أخرى، كما تقول هذه المؤسسات وتلك المساواة ضد ما يُعلّم قانون الغيب، وضد ما يقوله قانون الطبيعة.
عمل المرأة الأساس، تبعاً لذلك، يتمثل في الصلاة: حيناً في اتجاه الجنة، وحيناً في اتجاه السرير:
استقالة اجتماعية ومصرفية، وتنازل كامل عن دور النساء في بناء المجتمع. نفيٌ للمرأة بوصفها ذاتاً، وإثباتٌ لها بوصفها موضوعاً، مجرّد موضوع. وتبعاً لذلك، يُختصر الدين في المظهر والشكل، وتصبح الهوية الإسلامية «شكلاً»، قبل أي شيء. وفي هذا كله «مُزايدة» على الإسلام التاريخي، وعلى النبوّة نفسها. مزايدةٌ «تعويضية» – غير أنها تندرج في تلك العقلية – الآلية – الشكلية المهيمنة والتي «تعمل حتى الموت» لغاية واحدة: تضييق أفق الإسلام، وتحويله من حضارة الى مجموعة من الطقوس الشكلية، ومن «الأوامر» و «النواهي»، ومن «الحلال» و «الحرام».
- 2 –
غير أن «صورة» الحركة النسائية في سورية، أوسع بكثير من أن «تُختزل» في الصورة التي تعمل «الظاهرة القبيسية» على رسمها وتقديمها، بوسائل عدة، متنوعة بينها استعداء الدولة على منع أو قمع التحركات النسائية المدنية، الحرة. هكذا أثارت مقالتي السابقة حول «الظاهرة القبيسية» («الحياة»، 16 آب/ أغسطس 2007)، ردود أفعال متباينة، وكانت في معظمها إيجابية. وقد اهتمت بها بعض الصحف الأجنبية، فطلبت جريدة «لاريبوبليكا» الإيطالية، السماح بترجمتها ونشرها. في هذا ما يدعوني الى أن أطرح مزيداً من التساؤلات حول هذه الظاهرة من أجل حوار حولها، وربما مع بعض ممثلاتها، يُتيح لنا جميعاً أن نقترب من مُلامسة «العقدة» الدينية – الثقافية التي «تفرض» على المرأة أن تحيا وتفكر وتعمل تحت سقف ضيّق، مُغلق، محدود إنسانياً، واجتماعياً، وثقافياً. وذلك باسم فَهم أو تأويل للإسلام يجعل من «إنسانية» المرأة مجرد «وسيلة» ذكورية.
- 3 –
«الهيمنة الذكورية» كتابٌ مشهورٌ لعالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو. في هذا الكتاب لائحة للمتضادات أو للنقائض، هذه بعضها: أعلى/ أدنى، فوق/ تحت، أمام/ وراء، يمين/ يسار، مستقيم/ أعوج، جاف/ رطب، صلب/ لَيّن، واضح/ غامض، خارج/ داخل... إلخ. الأول في هذه الثنائيات المتضادة يُشير الى الذكورة، والثاني رمزٌ للأنوثة. الأول ذو دلالة إيجابية، والثاني، على العكس، ذو دلالة سلبية.
وضع بورديو هذه القائمة من المتضادات لكي يصف عبرها حالة المرأة في الجزائر، وبخاصة القبائلية. لكنها في الواقع وصف ينطبق على حالة المرأة في البلدان العربية كلها، وعلى المرأة المسلمة بعامة. ينطبق أيضاً، بشكل أو آخر، قليلاً أو كثيراً، على المرأة في الثقافتين اليهودية والمسيحية. لكن، في حين تناضل المرأة في هاتين الثقافتين الأخيرتين، لإلغاء هذه الثنائيات التراتبية وللنظر الى المرأة، بوصفها كائناً إنسانياً سيداً على حياته وفكره وجسده، تماماً كالرجل، نجد أن جمهور النساء في الثقافة العربية الإســلامية «يناضل» من أجل أن تبقى المرأة في «عبوديتها».
وكثيراً ما يُمحور هذا «الجمهور» نضاله ضد المرأة نفسها، المرأة العاملة من أجل الحرية الانعتاق. المثل على ذلك يأتينا، هذه المرة، من سورية، البلد الذي قد يكون، بين البلدان العربية، الأكثر تقدماً وحيوية في نسيجه الاجتماعي – الثقافي. والمُقلق هنا هو أن «الظاهرة القبيسية» ليست مجرد رغبة في «الانكفاء» الى العالم «الداخلي» الذي رسمته «الذكورة» تاريخياً ودينياً. وإنما هي ظاهرة «سياسية» من حيث أنها تعمل على منع التحرك النسائي لبناء الحياة المدنية، بحقوقها وحرياتها الكاملة في جميع الميادين، وبخاصة الدينية والثقافية والسياسية.
- 4 –
عندما بدأت المرأة في الثقافتين اليهودية والمسيحية نضالها من أجل المساواة مع الرجل، عززت هذا النضال العملي بنضال آخر نظري: طرحت مشكلات فلسفية – كيانية. تساءلت، مثلاً، من الرجل؟ من المرأة؟ هل بينهما فرق «جوهري»؟ خصوصاً أن الفروق الفيزيائية – العضوية بينهما لا تُعد من الناحية الإنسانية – الثقافية، «جوهرية». هل اللامساواة بينهما طبيعية بحيث تسوّغ الهيمنة الذكورية؟ أفلا نجد، على المستوى الإبداعي، نساء «يتفوقن» على الرجال – في الشعر والفن والعلم؟ ولماذا، إذاً، فكرة الهيمنة الذكورية؟ ما مصادرها؟ ما دعائمها؟ أهي في مجرّد الذكورة؟ أم انها دينية – وكيف، ولماذا؟ أطرح هذه التساؤلات، مفترضاًَ أن سورية ليست مجرد بقعة جغرافية. انها أولاً وقبل كل شيء رؤية حضارية – إنسانية: ان قضاياها مُتعالقة مع القضايا الكونية. انّ البشر فيها ليسوا مقيمين في أنفاق تحت الارض، أو في كواكب خاصة سابحة في فضاء خاص، في معزل عن العالم.
وأطرح هذه التساؤلات لكي أشير الى أن الفروقات الجسيمة بين الرجل والمرأة، ليست فروقات إنسانية أو ثقافية، وأنها، تبعاً لذلك، تشير الى «المسؤولية» ومستواها، وليس الى «تفوّق» يُجيز أو «يفرض» الهيمنة الذكورية.
وأطرح، أخيراً، هذه التساؤلات لكي نبدأ فنبحث مسائل الفروقات بين الرجل والمرأة لا على الأساس التقليدي المطلق: الذكورة/ الأنوثة، وإنما على أسس جديدة، فكرية وثقافية.
- 5 –
أخلصُ من هذا كله الى القول إن تغيّر المجتمع في اتجاه الأفضل ليس مسألة ذكورة أو أنوثة، أو مسألة هيمنة لإحداهما على الأخرى، وإنما هي مسألة تغيّر جذري وشامل في بُناه الأساسية العميقة. وهذا التغيّر يتمثل في تجاوز الأشكال والمضمونات القديمة: المجتمع – الطوائف والمذاهب، والدولة – القبيلة، أو الحزب الأوحد، وفي بناء المجتمع المدني، والدولة المدنية.
أدونيس
المصدر: الحياة
التعليقات
أنصح السيد "جان
أتمنى على السيد
نص يعبر تماماً
الظاهرة
من قبل غير محجبة
إضافة تعليق جديد