عن الجدران العازلة والمعازل العنصرية و المقاومة
الجمل- د. ثائر دوري: (( آه ما أقسى هذا الجدار
عندما ينهض في وجه الشروق .
ربما ننفق كل العمر .. كي ننقب ثغرة
ليمر النور للأجيال ..مرة !
... .....
ربما لو لم يكن هذا الجدار ...
ما عرفنا قيمة الضوء الطليق !!))
أمل دنقل – ديباجة - البكاء بين يدي زرقاء اليمامة
سمحت لي زياراتي المتباعدة للقرية خلال العقود الماضية ، و التي كانت تقل مدتها تدريجياً بسبب ارتباطات العمل و تعقيدات الحياة ،فعندما كنت في المرحلة الابتدائية و الإعدادية كنت أقضي أغلب عطلة الصيف هناك بحكم أن لا عمل أرتبط به، لكن فيما بعد لم يعد لي ترف أن أبقى أكثر من يوم أو بعض يوم.
سمحت لي هذه الزيارات أن أرصد تبدلات كثيرة حدثت في كل جوانب الحياة ربما لا يستطيع المقيم بالقرية رصدها لأنها تحدث ببطء ، و تبقى نظرة العين العابرة قادرة على رصد ما لا تراه المقيمة لأن الذاكرة تحتفظ بآخر الصور و تقارنها على الفور بالصور الجديدة فتلحظ الفرق .
عدا عن انتشار نمط الحياة المدني من استهلاك كثيف و ميل لنمط حياة استهلاكي يحط من شأن العمل، و ضجيج عال بشكل يوازي إن لم يتفوق على ضجيج المدن ، و مئات أخرى من التفاصيل التي أمكنني رصدها و طالت كل جوانب الحياة:اجتماعية، سياسية، اقتصادية ، حيث لم يبق حجر على حجر، كما يقولون. عدا عن كل ذلك يبقى التبدل الأهم برأيي هو ارتفاع الجدران بين الناس. و هنا أتكلم عن جدران حقيقية و ليس مجازية. ففي السبعينيات لم يكن يفصل بين بيتنا ، المؤلف من بستان كبير و بعض الغرف المبنية بالإسمنت .لم يكن يفصله عن الجوار ، أو عن الطريق الترابي الصغير الذي يمر به المشاة من أمام البيت أي فاصل ،فقد كانت الأراضي متداخلة ،و لم يكن الجار بحاجة لإذن ليدخل أرض جاره ،أو ليدخل بيته ، سواء من بيت إلى بيت عبر الحقول أو من جهة الطريق الترابي، إذ لا أسوار و لا جدران و لا أبواب يكفي أن يصيح الرجل باسم صاحب البيت لينبه أهل الدار أنه صار بينهم، فالحدود نظرية و على سندات الملكية ، إن وجدت ، لأن أغلب الأراضي لم يكن لها سندات ملكية بل إن ملكيتها شفهية، فلان يملك الأرض الفلانية و كل أهل القرية يعرفون ذلك.
بفضل زياراتي المتباعدة ، كما قلت ، بدأت ألاحظ تبدلات عميقة،بطيئة ، تحدث عبر زمان متطاول ، لكنها تغيرات ثابتة، فقد بدأت رياح الرأسمالية ، و ما سمي بالتطور تهب على البلد كله و منه قريتنا ، فبدأ الناس يفكرون بحدود ملكتهم و بتوثيق هذه الملكية، فتم قياس مساحة الأرض بدقة ووضعت بضع حجيرات على التخوم مع الجيران . عمليا لم يتغير أي شيء بالنسبة لعبور الناس و لعاداتهم و تقاليدهم سوى هذه العلامات الحجرية ، التي كانت تدرس أحياناً فيتم توضيحها من جديد، ثم بعد ذلك توضح الحد الفاصل أكثر فتم زرع بضع شجيرات من الرمان على التخوم . و بقيت أشجار التخوم هذه مشاعية الملكية يقطفها من يشاء دون التفكير بأرض من زرعت و من زرعها . لم تكن هذه الشجيرات تشكل عائقا حقيقياً ،لكن صار لها قيمة رمزية فحدت من حرية التنقل عبرها ، فقد صار محرجاً في الأحوال العادية أن يعبر الجيران عبر هذه التخوم،بل صار يتوجب عليهم أن يأتوا عبر الطريق الترابي الذي صار يفصله عن البيت هو أيضاً سياج من أشجار الرمان ليدخلوا البيوت من أبوابها ، ثم جاءت مرحلة الأسلاك الشائكة التي أطلق عليها السكان اسم " التيل المانع "، و هذا "التيل المانع" أنهى أية إمكانية لانتقال الكبار عبر التخوم ، كما حرم الحيوانات من الرعي في فضاءات واسعة ، أما حركة الأولاد الصغار فلا يمكن أن يقيدها أي سلك شائك إذ كانوا بسهولة يجدون ثغرة فيه ، أو يصنعونها كي لا يعيق "التيل المانع"حركتهم. و إذا كانت الأسلاك الشائكة حدت من حرية انتقال السكان ، و حددت حدود الملكية بدقة ، فإنها لم تمنع حرية البصر فقد ظلت البيوت مكشوفة لبعضها.
بعد ذلك جاء دور جدار البلوك ليرتفع بين البيوت مستهدفاً حرية النظر بعد أن ضاعت حرية التنقل، في البداية لم يكن ارتفاعه يتجاوز متراً لكنه بدأ يحجب النظر، و كلما غبت سنة و عدت لاحظت أن الجدران تتابع ارتفاعها بين الجوار حتى صارت اليوم أطول من قامتي كرجل و لا يمكن للأطفال عبورها، و لن يفكر بذلك بالغ لأن هذا الأمر سيعتبر اعتداءً على أملاك خاصة،لقد قيد هذا الجدار البصر إذ حجب كل شيء ، لكن الصوت بقي حراً حينا من الزمان خاصة بين جيل الجدات اللاتي كن يتحادثن بأصوات عالية تتجاوز الجدران . ثم ما لبثت حرية الصوت أن تلاشت ،عندما بدأ يحل نمط بناء مغلق على نفسه كالشقق المدنية بدل نمط البناء المفتوح الذي كان يتألف من صف واحد من البيوت ، و بعد أن انقرض جيل الجدات .
و بالتوازي مع الجدران التي كانت ترتفع بين الجوار كان هناك جدار آخر يرتفع ليفصل البيت عن الطريق ، الذي صار معبداً بالإسفلت ، حتى انتهى الأمر بجدار عال و باب بيت حديدي و جرس يقرع، و تطور الأمر من لقاءات يومية بين نساء و رجال الجوار ، بسبب أو بدون سبب ، إلى زيارات متباعدة و لأسباب محددة : زواج، وفاة، ولادة، مرض. و من قلوب مفتوحة الأبواب مشرعة أمام الجميع ليدخلوها، إلى عالم غامض مليء بالأسرار ، الكلام فيه بميزان فلكل امرئ أسراره ، و عالمه الغامض ، و أموره التي يجب أن تبقى طي الكتمان. و صارت أحداث الموت و الولادة و الزواج تتم بصمت ،و بفرح أو بحزن محدودين، في حين أن هذه الأحداث في الماضي كانت تخص الجميع ، فوفاة فرد من القرية تعني حزناً لكل السكان ، حزناً يستمر شهوراً يمتنع فيها الفرح ، أو يتم بخجل و على نطاق محدود إن كان لا بد منه. أما الآن فيمكنك أن ترصد عرساً بطبل و زمر و غناء و أجهزة صوت بجهة من القرية و عزاء بجهة أخرى ، و ربما بنفس الجهة و ربما عند الجوار ! فمع الجدران التي ارتفعت بين الجوار كانت هناك جدران أخرى ترتفع في النفوس و العقول ، ارتفعت حتى صارت جدران شاهقة لا تستطيع الروح تسلقها ،جدران تحجب الرؤيا و تصد الصوت. جدران تعزل كل إنسان داخل ذاته و تمنعه من أي تواصل مع المحيط .
هل هذا هو التطور؟ وهل هذه الحياة المتحضرة ؟
في القرن الثالث عشر الميلادي انطلق الرحالة العربي ابن بطوطة من أقاصي العالم الإسلامي في مراكش إلى أقاصي هذا العالم من الجهة الأخرى، فوصل إلى جزر المالديف في أقصى شرق آسيا ماراً بكل العالم العربي، و الأناضول، و بلاد فارس، دون أن يملك جواز سفر، و دون أن يحتاج أي تأشيرة دخول ، أو مراجعة سفارات، أو الوقوف بذلة عند نقاط التفتيش الحدودية، حيث يتم تفتيشه و كأنه لص ، و يتم النظر إليه كمشبوه. إنها الحدود التي بدأت ،كحكاية التخوم في قريتنا،كخطوط وهمية على الخرائط ، لكن بفضل الغرب و حضارته الرأسمالية تعمقت لتصبح خطوطا حقيقية تحد حركة البشر و الكائنات الحية الأخرى لأن تجاوزها بدون إذن مسبق صار جريمة تستوجب السجن و العقاب، ثم لتصبح أسلاكاً شائكة، أما في عام 2007، و بعد أكثر من سبعة قرون من زمان ابن بطوطة( يسمونها في الغرب " العصور الوسطى المظلمة "!)) و بعد دخولنا القرن الحادي و العشرين، أي دخولنا عصر التقدم و التحضر و التكنلوجيا، كما يرددون على أسماعنا صباح مساء، و في الشهر التاسع من هذا العام تسمع و تقرأ أخباراً من هذا النمط : السعودية بدأت ببناء جدار فاصل على حدودها مع العراق، و تركيا تفكر ببناء جدار مماثل. و في بغداد عاصمة العالم في عهد الرشيد، المدينة المفتوحة على كل الملل و النحل و الحضارات، المدينة التي استوعبت حضارة العرب و الفرس و الأترك و اليونان و مزجتها مع حضارتها العربية لتنير ظلمات العالم لقرون عدة هي و أختها قرطبة في غرب العالم الإسلامي. بغداد مدينة السلام يتابع المحتل الأمريكي تمزيقها بالجدران مرة حول مستوطنته التي سماها المنطقة الخضراء، و مرة حول أحيائها المقاومة كجدار الأعظمية، و ثالثة كما في شهر ايلول يحاول أن يرفع الجدران في أرواح أبناء بغداد سنة و شيعة، فيمزقهم بالجدران بحجة انه يحميهم من بعضهم كما يفعل بين حيي الشعلة و الغزالية. رغم أن الطرفين يخرجان بتظاهرات صاخبة رافضة لهذا العزل ، فالسكان لا يريدون هذه الجدران و هم يرفضون حماية المحتل !!
حدثنا منظرو العولمة الرأسمالية عن العالم المفتوح أو المسطح ، كما يقول توماس فريدمان ، و عن ضرورة فتح الأسواق و التخلي عن الخصوصيات الوطنية لتعميق وحدة البشر الكونية ، لكننا نلاحظ أنه كلما تقدمت مسيرة العولمة و كلما صغرت القرية الكونية ازداد البشر نأياً عن بعضهم و ارتفعت الجدران بينهم . ليس جدران رمزية، بل جدران حقيقية دون أن يهتز جفن دعاة العولمة الرأسمالية لهذا التناقض الفاضح ، فالولايات المتحدة التي قاتلت حتى وقعت اتفاقية النافتا مع المكسيك و كندا لتدمج أسواق هذه البلدان لمنح رأسمالها فضاء واسعاً ستبني جداراً على حدودها مع المكسيك سيكون مراقبا بأحدث التقنيات لمنع انتقال البشر و تواصلهم و بحثهم عن رزقهم عبر الحدود ! إذاً هي قرية كونية للبضائع و رؤوس الأموال أما البشر فممنوع تحركهم و عليهم القبول بعولمة تخنقهم ، فكل فرد يجب أن يبقى في مكانه حبيس ذاته لأن التحرك خطر في شوارع القرية الكونية ، التي تسيطر عليها المليشيات و المافيات فتمنع التنقل بين أرجائها إلا لفئة محددة من ذوي الدم الأزرق المسموح لهم بحرية التنقل و بدون قيود ، و هؤلاء أنفسهم هم الذين يعيشون في الأماكن المحصنة المحمية بكل الوسائل التقنية و المعزولة تماما عن المحيط و المسماة مناطق خضراء . مناطق خضراء كبيرة بحجم دول كالاتحاد الأوربي و الولايات المتحدة و كندا و أخرى صغيرة بحجم تلك الموجودة ببغداد ، حيث الدخول إلى هذه المناطق محكوم بشروط و إجراءات معقدة ،عليك أولا أن تكون من المحظوظين الذين يملكون ، و أن لا تكون من حملة الأفكار أو التصرفات التي تزعج سادة هذه المناطق الخضراء ، كما يتوجب عليك أن تقف على نقاط التفتيش المعقدة التي تفتش كل شيء فيك من ممتلكاتك إلى جسدك وصولاً إلى أفكارك ، فإن كنت تملك شيئاً لا يرضى عنه حكام المناطق الخضراء فلن تدخل ، أما إن حققت شروطهم فسيزودونك ببطاقة دخول خاصة تفتح لك كل الأبواب المغلقة .
عندما بدأ الكيان الصهيوني بناء جدار الفصل العنصري حَسبَ ( بكسر السين) بعض السياسيين و المحللين أن هذا الأمر جنون خالص في عصر العولمة و اندماج الدول و الأسواق و تنظيرات الصهاينة أنفسهم عن شرق أوسط مندمج يكونون في المركز منه فكيف يعمدون إلى عزل أنفسهم بالجدار !
لكن تبين فيما بعد أن الكيان الصهيوني يعرف ما يفعل ، بل إنه سبق الجميع بسنوات ، فهو بحكم تكوينه الصهيوني العنصري أدرك أن الطبعة الجديدة من الرأسمالية في عصر العولمة هي رأسمالية عنصرية الشكل و المضمون ، و تقوم على تعميم نظام الفصل العنصري بين السادة و العبيد ، بين من يملكون و من لا يملكون على كل كوكب الأرض، و كانت مهمة الكيان الصهيوني التاريخية هي صهينة العالم عبر نشر فلسفة الجدران كي يصبح هو كيانا طبيعياً ، و هانحن اليوم نجد كم نجحت المهمة فعقلية الغيتو و جدران الفصل العنصري تعم العالم بل صارت موضة، فمن يقدر على بنائها عليه أن يفعل و إلا كان متواطئا مع "الإرهابيين" ، و قد أدركت حكومة الاحتلال في الصومال هذه الحقائق فأعلن نائب رئيس وزرائها أنهم بصدد بناء منطقة خضراء محصنة في مقديشو ليستقر بها الاحتلال الإثيوبي و عملائه.
إن البشرية أمام مستقبل رأسمالي مظلم حيث تعيش أكثرية من البشر في معازل محاطة بالجدران و الأسلاك الشائكة متروكة للمرض و الجريمة و الفقر، مقابل أقلية تعيش أيضا معزولة داخل جدران محصنة، أقلية متنعمة بكل منجزات التكنلوجيا و الرفاهية و البذخ و الاستهلاك داخل مناطق يطلق عليها ا"لمناطق الخضراء".
أليست هذه هي نظرية المليار الذهبي التي بشرنا بها عتاة العولمة و الرأسمالية، و التي مفادها إن موارد كوكب الأرض ( يقصدون طرق الإنتاج و الاستهلاك في الرأسمالية المعاصرة ) لا تستطيع أن تلبي سوى حاجات الرفاهية و الاستهلاك لمليار من البشر فقط ، أما المليارات الباقية ا، الفائضة عن الحاجة حسب تفكيرهم ، فلتذهب إلى الجحيم.
و يعيش المليار الذهبي في مناطق خضراء واسعة هي: الولايات المتحدة و كندا و اليابان و الاتحاد الأوربي ، أو في مناطق خضراء ضيقة محصنة في جنوب العالم يسكنها بعض العملاء و الرأسماليين و السياسيين و المثقفين الانتهازيين.
أليست هذه هي صورة القرية الكونية التي رسمها بريجينسكي أواخر سبعينيات القرن العشرين ؟ فهي تتكون من أحياء غنية، و من مدن صفيح تحيط بها و تعج بالفقر و الجريمة و يتم تأديبها بواسطة حملات متكررة من الشرطة. أليس هذا جوهر قوانين الهجرة الجديدة التي تسنها دول الشمال الغني و منها بريطانيا التي صارت تشترط إجادة تامة للغة الإنكليزية و تمثلاً للثقافة و العادات و التقاليد البريطانية، و التي أضاف لها الفرنسيون شرطا جنونيا هو أن يكون لك قريب كفيل في بلدهم و أن يجرى عليك و عليه فحص الحامض النووي "الدنا" للتأكد من هذه القرابة مع أن القانون الفرنسي يمنع إجراء هذا الفحص على المواطنين الفرنسيين لنفس الغايات . بل يمنع التحقق من الأبوة منذ عهدنابليون !
لو أن رساما معاصراً أراد أن يرسم شعارا للمستقبل الذي تعدنا به الرأسمالية المعولمة، رأسمالية المليار الذهبي، رأسمالية الأرباتيد و المعازل العنصرية . لو أراد أن يرسم شعاراً للعالم الذي تريد هذه الرأسمالية بناءه لن يجد خيرا من رسم مناطق خضراء و جدراناً عازلة فهي جوهر عصر نهاية الرأسمالية المتوحشة المعولمة .
جدران عازلة ، و معازل عنصرية بنوعين مترفة تسمى المناطق الخضراء ، و أخرى فقيرة معدمة متروكة للجريمة و الجهل و الموت البطيء و يتم القضاء على تمرداتها العشوائية بواسطة القمع العسكري بأجهزة الشرطة المحلية أو الكونية ، و من هنا يبقى خيار المقاومة الذي تبناه العراقيون و قبلهم الفلسطينيون و من ورائهم الأمة كاملة هو الخيار المنطقي و الطريق الوحيد المتاح للنجاة من هذا المصير الذي تم تطبيق كبروفة صغيرة على الهنود الحمر خلال القرون الماضية و يراد اليوم تعميمه على كل شعوب العالم ، المقاومة هي الخيار الواقعي الوحيد لتدمير الرأسمالية الهمجية و تحطيم الجدران و بناء إنسانية جديدة قائمة على العدل و المساواة و التفاعل الحر بين البشر دون قيود على حركتهم أو أفكارهم و ما عدا ذلك لا يعني إلا التعفن و الموت في معازل عنصرية.
الجمل
إضافة تعليق جديد