«الدفتر الذهب» لصاحبة نوبل 2007
بالنسبة الى البعض هي «سيمون دي بوفوار على الطريقة الانكليزية»، لكنها بالنسبة الى البعض الآخر، لا تشبه دي بوفوار إلا في شكل سطحي. من ناحية مبدئية تتعلق بأفكارها اليسارية (التي كانت تحملها واضحة خلال مرحلة أولى من عمرها، ثم في شكل أكثر سجالية خلال المرحلة التالية الممتدة حتى اليوم)، وخصوصاً بأفكارها في ما يتعلق بقضية المرأة. أما عدا هذا، فإن دوريس ليسينغ، الكاتبة البريطانية التي فازت قبل يومين بجائزة نوبل للآداب لسنة 2007، تختلف عن رفيقة سارتر كثيراً: ففيما اتجهت هذه الأخيرة الى الفكر والفلسفة والصراعات الايديولوجية، اتجهت ليسينغ الى الأدب الخالص محملة إياه أفكارها، لكنها معطية له في الوقت نفسه حياة مستقلة. ذلك ان الأدب بالنسبة اليها ليس مجرد حامل أفكار، بل ايضاً – وبخاصة – حامل أحاسيس وصورة لما يفكر فيه ويعيشه الناس، ولما يتخبطون فيه من علاقات وصراعات. وفقط لأن المرأة، ككائن بشري، تخوض في الحياة عدداً من الصراعات الخاصة يفوق كثيراً ما يخوضه الرجل، كان للمرأة – ولا يزال – كل ذلك المكان في أدب دوريس ليسينغ. غير ان مناصرتها هذه لقضية المرأة، لا تغيّب عن بالها عنصراً أساسياً غالباً ما تغفله المناديات بحرية المرأة وهو عنصر الاستغلال الاقتصادي الذي يمكنه وحده ان يخفف عن المرأة عبوديتها، حتى وإن كان عاجزاً عن إلغائها. اليوم حين تؤكد دوريس ليسينغ هذا، تبتسم وتقول: «لعله الشيء الوحيد الذي بقي لي من سنواتي الشيوعية»، مستدركة في الوقت نفسه أن «الشيوعية حين حكمت، لم تجعل للمرأة على أي حال وضعية أفضل من تلك التي تعاني منها تحت ظل الأنظمة الاقتصادية الأخرى». فهل لهذا السبب تراها تركت «النضال الشيوعي» باكراً في حياتها؟ «أجل... ولكن بين اسباب كثيرة أخرى» اكتشفتها ليسينغ مرة واحدة وبالجملة، حين قامت بزيارة الاتحاد السوفياتي.
> لكن هذا لم يكن رأي دوريس ليسينغ آخر سنوات الخمسين من القرن العشرين وعند مطلع الستينات حين كتبت ونشرت واحداً من أشهر كتبها «الدفتر الذهب» وذلك في وقت كانت أنجزت معظم أجزاء سلسلتها الروائية الأولى «أبناء العنف» (1952-1969)، هذه السلسلة المعروفة ايضاً باسم بطلتها مارتا كويست، والتي خلال كتابتها، حدث لدوريس ليسينغ ذلك الشرخ الكبير في حياتها والذي راح يقودها بعيداً من بداياتها الشيوعية، نحو فكر أكثر تحرراً وإنسانية. والحقيقة ان «الدفتر الذهب» الذي أنجزته ليسينغ قبل ان تنجز آخر جزءين من سلسلة «أبناء العنف» يمت بصلة قرابة فكرية الى ذلك المناخ المرتبك الذي كانت تعيشه خلال تلك المرحلة من حياتها، وهي المرحلة الانتقالية الأساس في تلك الحياة. وعلى رغم ان هذا الكتاب يحمل من القلق أكثر بكثير مما يحمل من علامات النضال السياسي والاجتماعي النسوي، فإن قارئات ونقاداً كثراً من العالم مالوا الى اعتباره كتاباً أساسياً من الكتب الداعية الى تحرير المرأة، اذ رأوا فيه صورة ليس فقط لما تصبو اليه المرأة من مكانة في الكون، بل ايضاً صورة لما تعيشه وللتمزق الذي تعاني منه. ناهيك بأن كثراً اعتبروا هذا الكتاب – وهو رواية – نوعاً من سيرة ذاتية مواربة كتبتها دوريس ليسينغ عند ذلك المفترق من حياتها.
> حين كتبت دوريس ليسينغ «الدفتر الذهب» كانت في الثالثة والثلاثين من عمرها، وكانت استقرت نهائياً في انكلترا برفقة ابنها من زوجها الثاني الذي كانت طلقته كما فعلت مع زوجها الأول. قبل ذلك، كانت دوريس تعيش في روديسيا (التي صار اسمها زيمبابوي بعد استقلالها) التي واصلت حياتها فيها من سن الخامسة الى سن الثلاثين، وكانت نشرت عدداً لا بأس به من الكتب خلال دزينة من السنوات تلت صدور روايتها الأولى «العشب يغني». وكان قراء الانكليزية اكتشفوا أدبها، كما صاروا على اطلاع على ملامح كثيرة من حياتها، ولا سيما على سنوات نضالها السياسي، حينما حاولت بعث حزب شيوعي في روديسيا فأخفقت، وبعد ذلك حين انضمت – في لندن – الى الحزب الشيوعي الانكليزي فكانت خيبة أملها كبيرة. والحقيقة ان هذا كله عبّرت عنه دوريس ليسينغ في الكتب التي كانت نشرتها وطبعت كلها، روايات وقصصاً قصيرة وحتى على شكل مذكرات مبكرة (كما في «العودة الى الدار» – 1957)، بنكهة السيرة الذاتية. غير ان اذا كانت كتب ليسينغ السابقة اتسمت بنزعة نضالية مشاكسة، فإن الجزءين الأخيرين من «أبناء العنف» ثم «الدفتر الذهب» بخاصة اتسمت بالغوص عميقاً في الخيبة والتمزق، حتى وإن كان في الإمكان أن نقول عن «الدفتر الذهب» انه وسط الأزمة الانفصامية التي كانت تعيشها بطلته، عثر على شيء مما يسمى الضوء، في آخر النفق... ولكن بطريقة شديدة المواربة على رغم وضوحها.
> «الدفتر الذهب» هو رواية تفتيت من نوع نادر. تفتيت يسيطر على العمل، شكلاً وبنية ومضموناً، من خلال تعبيره عن ذلك الانهيار الذي تعيشه بطلة الرواية، الكاتبة آنا وولف (مزيج من دوريس ليسينغ وفرجينيا وولف؟). وآنا للتعبير عن تلك المرحلة الانعطافية - الانفصامية من حياتها تدوّن، طوال الرواية، ذكرياتها وأفكارها وكل ما يمر بها، في مجموعة من الدفاتر، لكل دفتر منها لون محدد. وكل لون يرتبط إما بجزء من مراحل حياتها، وإما بنوع أدبي كتابي تخوضه. وهكذا مثلاً هناك الدفتر الأسود الذي يضم المذكرات التي كتبتها آنا وولف عن حياتها في افريقيا، تلك الحياة التي أوحت اليها بالرواية الوحيدة لها التي حققت مبيعات كبيرة. أما الدفتر الثاني فهو الدفتر الأحمر، الذي تروي فيه الكاتبة تجربتها في صفوف الحزب الشيوعي البريطاني. والدفتر الأصفر يضم ما كتبته حول رواية كانت تكتبها في ذلك الوقت لتروي فيها وقائع حزينة ومؤلمة لقصة حب عاشتها. وأخيراً هناك الدفتر الأزرق الذي تسجل فيه على سجيتها يومياتها وعواطفها وأحلامها وما شابه.
> من الواضح هنا ان هذه الدفاتر الأربعة التي تتوزع عليها الاجزاء الرئيسة من الرواية، انما هي محطات تعددية ومتشابكة في مسار حياة الكاتبة (آنا وولف) تضعنا مباشرة على تماس مع نضالاتها والصراعات التي تخوضها – كامرأة اولاً وككاتبة بعد ذلك – في العمل والحياة العاطفية والجنسية وحياة الأمومة والحياة السياسية والاجتماعية. في معنى ان كل دفتر من الدفاتر يتطابق مع سمة من سماة حياة هذه الكاتبة التي لن نلبث طويلاً، بالطبع، قبل ان نكتشف انها قرينة دوريس ليسينغ وأخت روحها، أو في شكل أوضح أناها الأخرى. ولئن كانت ليسينغ جزأت تلك السمات ووزعتها على الدفاتر، فما هذا إلا لأنها كانت تريد ان تسرد ذلك التمزق الذي تعيشه المرأة، كل امرأة حتى وإن كانت بطلتها هنا ذات خصوصية، ثم ان تنطلق منه، شكلاً ومعنى، للوصول الى الدفتر الاخير: الدفتر الذهب، الذي هو صورة للانهيار الذهني النهائي الذي يطاولها، ولكن لا ليقضي عليها، بل تحديداً، ليعيد تشكيلها من جديد، على اعتبار ان آنا وولف، اذ تصل الى ذلك الانهيار الشامل، تصبح قادرة على اعادة اكتشاف «تكاملها» في وحدة عضوية جديدة، هي الخلاصة التي تكون حالها عليها في الدفتر الأخير.
> لقد كان هذا الكتاب ذا وقع كبير منذ صدوره في الانكليزية، وبدء قراء كثر باكتشاف دوريس ليسينغ من خلاله، بعد ان كان قراء أقل عدداً اكتشفوها بخاصة حين بدأت تنشر «أبناء العنف». ويقيناً ان الحديث عن احتمال، ثم عن حتمية فوزها بجائزة نوبل للآداب، بدأ منذ ذلك الحين وتحديداً منذ بدء ترجمة «الدفتر الذهب» الى لغات أخرى، ومنها الفرنسية، ولكن كان على دوريس ليسينغ ان تنتظر طويلاً بعد ذلك (اكثر من ثلث قرن)، زمناً عاشته خصوصاً في لندن متنقلة من إنجاز كتاب الى آخر، ومن الشعر الى الرواية والمذكرات والنصوص المسرحية، ثم من الشيوعية الى اليسار العمالي وصولاً الى الصوفية تحت تأثير الكاتب ادريس شاه، ثم أخيراً الى الاسترخاء الكامل ولا سيما بعد ان راحت في أدبها تبتعد من العالم الأرضي لتغوص في عالم الخيال العلمي – «الفضاء العلمي» - بحسب تعبيرها الخاص، حين تحدثت عن خماسيتها التي أصدرتها بداية الثمانينات في عنوان عام هو «كانوبوس إن آرغوس: محفوظات» غير ان هذا لم يمنعها من العودة الى الارض والى السيرة الذاتية، والى سنوات افريقيا في أعمال لاحقة واصلت كتابتها حتى هذا العام.
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد