مهن تخبو وأتخرى تسطع: انقلاب المفاهيم وثورة المادة
ما الذي يؤدي إلى تفوق مهن و اندحار أخرى..! لاشك بأن للباحث في علم التجارة والتسويق رأياً, ولعالم الاجتماع والمؤرخ وعالم الاقتصاد والشاعر والأديب والفنان عامة, آراء أخرى مختلفة إن فتحنا هذا الموضوع على تعدد الرؤى والقراءات.
وتتفاوت النظرة المجتمعية التقويمية للمهن من شريحة اجتماعية إلى أخرى, ومن مجتمع إلى آخر, وهي مدة زمنية محددة عن مدة أخرى.
وفي استطلاع وتحقيق حول هذا الموضوع قال د. حسين حمادة الأستاذ في كلية التربية وعضو الجمعية السورية للعلوم النفسية: مهن المحاماة والطبابة السنية تتقدم في بعض المجتمعات الأوروبية والأميركية, كما أن كليات الطب البشري والأسنان والصيدلة والهندسات بأنواعها والتي تسمى (كليات القمة) تعد مرغوبة من قبل خريجي الثانوية العامة (الفرع العلمي) في البلاد العربية, بل ومطلوبة من قبل أهالي الطلاب أيضاً, هذا إن لم يكن بتخطيط مسبق من الأهل وضغط متزايد منهم, وذلك لأهمية هذه المهن من الناحية الاعتبارية ولمردودها المادي والمتعاظم).
ويستدل د. حمادة على رأيه هذا بسيادة عصر اقتصاد المعرفة العولمي المرتبط بضرورة تنامي القدرات العلمية والتقنية المتطورة وفق متوالية هندسية وليست حسابية, ما ينقل تدريجياً الكثير من المهن والحرف والصناعات ووظائفها من استخدام الأدوات اليدوية والآلات الميكانيكية البسيطة إلى التعامل مع الأجهزة المستخدمة والمتطورة تقنياً في الاستخدامات المنزلية والغسالة الآلية المبرمجة رقمياً, والمكيفات المصممة وفق تدرجات مناسبة, ومنها إطلاق الأقمار الصناعية المضبوطة (بالفيمتوثانية) وهو جزء من مليون مليون من الثانية.
هذا النمو العلمي والاقتصادي يتطلب تغييراً في الكفاءات البشرية المطلوبة المعتمدة على تراكم المعلومات والمهارات والخبرات العامة على مستوى المؤسسات, الجامعات, وتطوير مهارات التفكير من فنيي عمال صناعة, فانوس رمضان الفاطمي, إلى فنيي ومهندسي الطاقة الفيزيائية ودخول عوالم الحواسيب المؤتمتة المعتمدة على هندسة المعلومات والبرمجيات وتصميم المواقع, يتبعه تعلم اللغات العالمية الحية.
ويقف د. حمادة: عند مهنة التعليم وينظر إلى المدرسين داخل أسوار المدرسة فيقول: سمعت معلمة تقول على هواء إحدى الفضائيات المباشر: (عندما وصلت إلى باب المدرسة قررت عدم الدخول إليها),. فإذا كان هذا حال المعلمة لحظة وصولها إلى المدرسة فكيف هو حال الطلاب داخلها.. وذلك أن المردود المادي في مهنة التعليم محدود نسبياً..
ويخلص للقول: إن ثقافة المواطنة تنظر إلى كل مهنة باعتبارها ضرورة فردية وفي الوقت نفسه اجتماعية وإنسانية مهما كانت سويتها في نظر البعض. شرط أن تصل إلى مواصفات معيارية منتجة إيجابية.. فالمهنة هي امتياز لنا على الآخر مهما كانت تلك المهنة, وإن كل إنسان مبدع في مجال عمله, وكل مهنة لها امتيازها على المهن الأخرى ولها خصوصيتها التي لا غنى عنها, ويتم تقويم معلومات وخبرات ومهارات المنتج وقدرته على إدارة ما تراكم لديه من معطيات موازنة مع معطيات أنداده, وما يمكن أن يؤدي إلى حالات من التنافس الفردي النقي, وكذلك العمل على تحسين مستوى المخرجات التعليمية العملية والخبرات الفنية التقنية.
تأثرت مجتمعاتنا مثلها في ذلك المجتمعات الأخرى بمفاهيم ومتطلبات جديدة في سوق العمل وفي جوانب نشاط المجتمع المتعددة والتعليم والصناعة والتجارة والمصارف.
ويدلل د. كمال حسين أستاذ العلوم في جامعة دمشق على ذلك بازدياد حاجة المجتمع العالمي للاتصالات والإلكترونيات, والمعلوماتية, التي تعتبر جميعاً عصب النشاط الاقتصادي والإعلامي والعلمي والتكنولوجي المعاصر, في حين وبالماضي القريب لم تكن هذه المعارف تأخذ ذات الحيز من الاهتمام, واعتباراً من الحرب العالمية الثانية التي يفصلنا عنها نحو (50) عاماً ونيف, أصبحت هذه التحولات تفرض نفسها على الدولة المعاصرة كما على المجتمع, وتتطلب المواءمة بين أمرين اثنين, المتطلبات, والاحتياجات.
ويقف بدوره عند مسألة التعليم بمراحله جميعها, وخصوصاً بعدما تعرضت لتبدلات هامة, حين أصبح أكثر من نصف المتعلمين, يتابعون تحصيلهم لقاء أجور مرتفعة جداً التعليم (الأساسي, الثانوي, الجامعي). وعلى الدولة أن تعمل عن طريق خبراء متخصصين في هذه المجالات بمن فيها أعضاء الهيئات التدريسية في الجامعات والكوادر العلمية في مراكز البحوث العلمية استقراء هذه المؤشرات.
والملاحظ ازدياد الاهتمام بتطوير الزراعة والصناعة والخدمات الصحية, والسياحية, والمصرفية, وإنشاء مؤسسات ومصانع جديدة لاستيعاب الكوادر المتعلمة من خريجي الجامعات وقوافل العمال والموظفين المؤهلين والمسلحين بالمعرفة للعمل في شتى قطاعات الإنتاج العام والخاص.
ويضيف د. حسين: الطب, الهندسة باختصاصاتها كافة بأنها أمهات المهن, لأنها تعتمد المهارة والإبداع.
أما العلوم والتكنولوجيا والاتصالات والكمبيوتر, إضافة للعلوم المرتبطة بالصناعات الغذائية وعلوم الصيدلية فهي من وجهة نظره (البحوث الراقية).
ولا ينفي بدوره دور العلوم الإنسانية النفسية وأهميتها في وقتنا الراهن, ويخلص إلى نتيجة مفادها, أن معيار الأهمية لمهنة من المهن يأتي بشكل رئيسي من منطق الحاجة إليها, وأن تصنيف المهن يحتاج ليكون مقنعاً وموضوعياً إلى إحصاءات وأرقام.. وتحليل لهذه الأرقام.
يحدد د. سمير الشيخ علي (قسم علم الاجتماع) مرحلتين لاتجاهات الشباب نحو مهنة معينة.
المرحلة السابقة, كانت مهنة الطب, المحاماة, الهندسة, التعليم هي التي يرغبها الشباب, وأيضاً لبعضهم اهتماماتهم في المحاسبة المالية وإدارة الأعمال والصيدلة وعلوم الدين والاقتصاد.
لكن التغيرات التي طرأت على المجتمع السوري حولت بعض اهتمامات الشباب, وبدأت هذه الاهتمامات ترتبط بظرف الفرد نفسه., ووضعه المادي والاجتماعي, فمن يطمح لدراسة الطب يجب أن تكون لديه المقدرة والإمكانات لفتح عيادة, والمحامي أيضاً والمهندس..
أما الجانب الآخر فيتعلق بالسمات الفردية للشخص, من مثل المقدرة على إقامة علاقات عمل, لأن علاقات العمل هي من يعمل على جذب الزبائن والدخل. وعليه أن يتحلى بالصبر على مهنته, فمثلاً مهنة الطب تراجعت, وتقدمت عليها مهنة الصيدلة, لأن مهنة الطب تتطلب من الطبيب أن يكون مرهوناً لعمله ولمرضاه.. بينما يمكن للصيدلي أن يستعين بكادر آخر. وتستمر وتيرة العمل.
وبات الإقبال على هندسة المعلوماتية أكثر من الهندسات الأخرى, أما المحاماة, فمن يعمل محامياً عليه أن يتحلى بالقيم والأخلاق, وفي هذه الحالة لا يمكنه أن يحتال على القانون, لأن المحاماة تتطلب مهارات خاصة, وأيضاً لا يوجد احترام للقانون, لأنه يُخترق من قبل رجال القانون أنفسهم, ما يجعل الكثير من الشباب يعزفون عن هذه المهنة.
ومهنة التعليم شاقة, ودخلها محدود, لذا تتجه الإناث إليها أكثر من الذكور.
وتتفوق بعض المهن التي تعتمد في دراستها على الاختصاص الأدبي مثل اللغات, لأنها تؤمن فرص عمل وخصوصاً على صعيد القطاع الخاص أكثر من غيرها.
يضيف د. يوسف سلامة استاذ الفلسفة في جامعة دمشق, المهن وفقا لمبدأين: الأول يستند إلى الموهبة والثاني يستند إلى العمل والتدريب والممارسة وتحتل الفلسفة المكانة الأولى اللائقة بالإنسان في المهن المعتمدة على الموهبة على الرغم من أن الفلسفة ليست مجرد مهنة بل هي أولا وقبل كل شيء طريقة في الحياة ولم يكن الفلاسفة القدماء موظفين عند أحد حتى عندما كانوا يمارسون السياسة ويشغلون بعض المناصب التنفيذية.
وتليها مهنة الفنون على اختلاف صورها وأشكالها لأنها هي الأخرى معتمدة على الموهبة (الفنان التشكيلي, الشاعر المبدع, الروائي العظيم, كاتب الدراما المتميز والمهندس المعماري) هذه المهن العظيمة التي تتطابق مع الحقائق الداخلية للإنسان مع رغبته العميقة في أن يعيد صياغة العالم وفقا لفكرة خانقة في رأسه..
ومن مهن النوع الثاني المعتمدة على التعلم والتدريب والممارسة يضع د. سلامة الطب في طليعتها والهندسة وطب الاسنان والصيدلة وجميع المهن الأخرى والمتفرعة عنها..
ويضيف بدوره: تتجه غالبية الأسر في مجتمعنا اليوم وأبناؤها أيضا إلى المهن التي لاتعتمد الموهبة ولا تستند اليها لأن هذا النوع الأخير من المهن جالب للربح وجامع للمال وليس من الذين يتوجهون إلى هذا النوع الأخير من المهن إلا القليل ممن يفكرون بالإنسانية وبالفقراء والمحتاجين فمعظمهم وغالبيتهم يتجهون إلى ما سيجنون من مال وإلى ما سيحققونه من مكانة اجتماعية هي بدورها جالبة للمال.
رغم الايجابيات الكبيرة لعصر التكنولوجيا والمعلومات لايمكن تجاهل ما أحرزته من سلبيات على صعيد المجتمع كافة والمهن على وجه الخصوص فبعد أن كان الطبيب ذاك الحكيم الذي يعرف الكثير من المعلومات عن الأمراض واسبابها والاعشاب النافعة في مداواتها وقد اكتسب خبرة من التدريب والتجربة يداوي المريض نفسيا قبل أن يداويه عضويا, يشعر بالفقير والمحتاج, أما طبيب اليوم فهو مع كل أجهزته تحول إلى ( آلة) لا تعرف إلا لغة عد النقود ولا تعترف إلا بالمال ماخلا بعض من تحلى بطيب الاخلاق وكرمها.
والشيء نفسه يكاد ينطبق على المعلم الذي كان شيخاً في (الكتاتيب) التي كانت بسيطة في المبنى لكنها عميقة المعنى, يحرص الحرص كله على إكساب الطلاب أكبركم من المعارف والعلوم لأن التعليم في نظرة أمانة ومسؤولية, أما اليوم فقد طغت المادة كذلك على هذه المهنة و اصبح بعض المدرسين يهرولون لمن يدفع لهم أكثر ويرى في التعليم الخاص والدروس الخصوصية ضالته.
وباختصار فإن المادة سيطرت على كثير من المهن واصحابها فأصبحت غاية يبرر لأجلها كل وسيلة وأصبحت في زمن استهلاكي ينال فيه الطالب الشهادة ليرتزق لا للعلم والمعرفة وهذا ينطبق حتى على خياراته في الفرع الذي سيدر عليه في المستقبل ربحا أكثر لاشك هذا خلل في الميزان يجب أن نجد له الحل اللازم.
يفضل الطالب عبد الكريم عبد الله قسم اللغة العربية مهنة التعليم على غيرها لأنها في رأيه في متناول اليد بعد أن باتت الاختصاصات الأخرى بعيدة المنال إما لارتفاع معدلات القبول أو لكثرة الخريجين من الاطباء مثلا والمحامين.. ربما يلعب رأس المال دورا مهما في اختيار المهنة فمثلها التجارة يحتاج إلى رأس مال, والمهندسة تحتاج إلى مكتب.. والحقيقة نحن كما يقول المثل (العين بصيرة واليد قصيرة..)
و يرجح آلان حسن علم النفس على باقي العلوم, والاختصاصات والمهن لحاجة المجتمع المتزايدة له, نتيجة تعقيدات الحياة وصعوبتها والأزمات والحروب التي تتوالى على الشعوب ويليها مهنة الصحافة, والعمل باختصاص اللغات ومن ثم هندسة البترول .. وهندسة الكمبيوتر فكلاهما من العلوم المستحدثة التي باتت من ضروريات العصر نتيجة ثورة المعلوماتية الكبرى التي تميز بها العصر الحديث.
أما الطالب أحمد بشير الهادي من قسم التاريخ فهو يرتب المهن حسب أهميتها من وجهة نظره الخاصة كالتالي.. التجارة, الطب, اللغات.
السيد نزار نسيب القباني (تاجر) يرى أن للتطور الاقتصادي والاجتماعي دوراً في تفوق بعض المهن على بعضها الآخر, وربما تتوسع إحداها بدافع الربحية على حساب أخرى.
أو قد تساهم العوامل القانونية المشجعة وسياسات الدولة ورغباتها في تطوير وترويجها على خلاف غيرها التي قد تبتعد عن دائرة الضوء.
ويدلل على ذلك بمهنة التجارة التي دخل ضمن دائرتها أعمال كثيرة أهمها تجارة الأراضي والعقارات وتعد المهنة الأكثر رواجا في هذه الأيام, إضافة للأعمال التجارة الأخرى التي كان للانفتاح على الآخر دور في هذا الرواج, وخصوصاً بعد إعطاء القطاع الخاص دوره كاملاً ليقوم بأداء مهامه, وظهور العديد من التشريعات الاقتصادية لتمكينه من القيام بهذه المهمة كالمصارف وشركات التأمين, ويتم دراسة العديد من التشريعات كقانون التجارة والشركات لدعم الاقتصاد الوطني والتجارة في هذا المجال.
وطبعاً تتبع لهذه المهمة المصارف, شركات النقل أما مهنة الطب فيؤكد السيد قباني أنها تأتي في مصاف المهن الأعلى وقد ساهم التطور العلمي والاستقرار في تطور هذه المهنة وعودة الكثير من الأطباء المتميزين الموجودين في دول الاغتراب نتيجة المؤتمرات الطبية واللقاءات التي تمت بين الأطباء المغتربين والسوريين, ما أدى إلى الاستثمار في هذا القطاع كالمشافي, واستيراد أحدث الأجهزة العلمية الطبية في العالم وباتت اليوم سورية يؤمها العديد من المرضى العرب للمعالجة فيها عوض عما كان سابقاً من ذهاب السوريين إلى تلك الدول للمعالجة.
فاتن دعبول
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد