صرامة الآباء العسكريين تبني حاجزاً بينهم وبين أطفالهم
يهرول الصغير إلى غرفته، طاوياً درجات السلم ونبضات قلبه في تسارع والرعب يتطاير من عينيه الصغيرتين. لا يعلم متى تنقضي تلك الدرجات ليصل إلى غرفة نومه.
في بداية السلم، سقطت دميته من يده وتركها. ثم توقّف حائراً بين أن يرجع لالتقاطها سريعاً من دون أن يراه والده، أو إكمال رحلة الذهاب إلى غرفته. والمهم أن يبلغ غرفته وينطرح على سريره لا أن يغفو. يكفيه التظاهر بالنوم كي لا يدرج اسمه على لائحة الذين سيعاقبون، في اليوم التالي.
نجح الصغير في بلوغ السرير في الوقت المناسب، ولكنه بقي يفكر في لعبته، فهو لا يستطيع النوم من دونها. فطالما بثت تلك اللعبة السرور في نفسه، ولعب معها، وسبح مع «الطيور» الوردية، محاولاً نسيان «المعتقل» الذي يعيش فيه، قبل أن يغلبه النعاس بعيداً من أوامر النوم الباكر قسراً. أوامر تأتيه كل ليلة، حتى كره موعد النوم. وفي النهاية، نجحت محاولة «التسلل»... إلى الغرفة، بالطبع، ولاذ الطفل بنوم عميق.
ملامح والده العقيد تحولت بعد سنوات من الخدمة العسكرية إلى جمود ووجوم. قسمات وجهه صارت عصية على الابتسام. ولم يعد يعرف أن يعبر عن انفعالاته أو استخدام لغة للحديث سوى فعل الأمر. وعلى الجميع تنفيذ «البروتوكولات المسلكية» المعتادة، من دون مواربة أو تردّد.
وفي الصباح الباكر، يبدأ أحمد الصغير بنسيان أمانيه في الليلة الماضية، ليجد نفسه، من جديد، مرغماً على التكيف مع نمط حياة والده. وهو يستدعي كل أفراد العائلة إلى وجبة الفطور، كما لو أنهم في ثكنة عسكرية.
يراقب أحمد تصرفات والده، متابعاً مكالماته الهاتفية التي تنبئه، على الدوام، بالحوادث التي تقع. وألفت أذن الصغير مفردة الموت، فصار لا يخافها مثلما يخافها زملاؤه في المدرسة.
يقول لهم إنه أمر اعتيادي، أي الحادث أو الموت، ولا داعي للقلق. ثم يمضي أحمد في سرد قصص والده ويروي لهم عن قدرته على استخدام الأسلحة وبراعته في القفز والوثب، والحركات القتالية... يروي لهم تلك الأخبار بحماسة شديدة، ومع ذلك، هو لا يريد أن يصبح مثله، لئلاّ يُقتل!
والدة أحمد تستغل خوفه من أبيه. وإذا لم يطع أوامرها، تهدده بأن تبلغ والده، كي يسجنه مع المجرمين عقاباً له.
وتبدو تأثيرات تلك التصرفات واضحة على الفتى، خصوصاً عندما يلهو مع أقرانه، بعد عودته من المدرسة. فلعبه «مشحون بالصراخ والضرب والتهديد بتبليغ الشرطة»، تقول الوالدة. وعندما يذهب إلى محل الألعاب، يصرّ على شراء «الكلبشات» (القيود) البلاستيكية، و»الأسلحة» ذات الصوت المدوي، ويبحث أيضاً عن زي عسكري على مقاسه، ليتباهى به أمام والده ويظهر له ولاءه، وبأنه يماثله في كل شيء.
لا يستطيع أحمد نسيان موقفه عندما رسب في مادة الحساب (الرياضيات). حاول إخفاء ورقة كشف العلامات، لكن أباه علم بخبر رسوبه، فحبسه في غرفة مظلمة بعض الوقت.
وتشير المتخصصة في علم النفس، مها المحمد، إلى أن عسكريين كثيرين يتأثرون بعملهم، ومنهم من يبلغ مرحلة «التقمص»، فيستخدم مصطلحات عسكرية في حياته اليومية مع أفراد أسرته والمحيطين به. وقد عمد أحد الضباط، عندما كان يدرب ابنه على قيادة السيارة، إلى توجيهه بنبرة عسكرية، مثل «الزم اليمين» أو «ثبت السرعة». وتقول: «تتميز تربية العسكريين بالجفاف نوعاً ما، وهم يحتفظون بالشخصية الحادة والجادة طوال الوقت، ما يجعل الأبناء يخافون من آبائهم، فيحاولون تفادي الوقوع في الخطأ، مهما كان تافهاً».
وتضيف المحمد: «لا تخرج الشخصية النمطية للطفل عن حالتين، فهي إما مهزوزة، أو عنيفة. وفي الغالب يكون الطفل ضعيف الشخصية أو خجولاً، نظراً لخضوعه معظم أوقات حياته لنوع من أنواع السلطة».
وهي تشير إلى «الهوة العميقة والفراغ النفسي» الذي يعيشه المتقاعد من الخدمة، خصوصاً إذا كان شغل رتبةً عالية، ومنصباً قيادياً. ويكون عاش مدة طويلة من عمره يتخذ القرارات، ثم يصبح متقاعداً لا يشغل أي منصب سوى الجلوس في المنزل.
وتوضّح المتخصصة بعض سلبيات التقاعد، قائلة: «ليس غريباً على المتقاعد أن يمارس بعض الطقوس العسكرية على أبنائه، وأن يملي عليهم الالتزامات في الحياة الاجتماعية، مثلما كان يمليها على جنوده».
وتؤكد المحمّد أيضاً احتمال تأثر الفتيات في شكل أكثر وضوحاً من الفتيان. ومنهن من يصبن بنوع من الانطواء، أو الصمت السلبي، أو يعتبرن آباءهن أشخاصاً لا يمكنهن الاقتراب منهم، أو التودد إليهم، طالما احتفظوا بالصرامة في المعاملة. وقد يلجأن إلى مخارج أخرى، لكسر حدة حياتهن بدلاً من الخضوع لقدرهن المحتوم.
فاطمة العصيمي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد