الغذامي وأدونيس... تقليديان
لم تعد الحداثة تعني التقاطع مع المألوف، ولم تعد مصطلحاً لمفهوم مرحلي زمني تراتبي: بمعنى تقليد يذهب، وحداثة تأتي، ثم تذهب وتأتي حداثة غيرها وهكذا، لم يعد هذا التعريف في ظل المعرفة الكونية المتاحة، وتقدم الدراسات الإنسانية في حقول متعددة يعني الثورة على وضع سابق، وقابلية التراجع أمام وضع تال له ثقافياً وحضارياً.
الحداثة في الفكر الحديث استقر مفهومها على معنى الديمومة الزمنية منذ عصر اختراع الكتابة، واستقامة النظام اللغوي، وتبلور التفكير الإنساني، وتفتح العقل على أسرار الوجود، فالثقافة وهي الجانب النظري للحضارة البشرية، إنما هي محصلة جماعية لسلسلة متواصلة من الإضافات التي تضخها العصور منذ القدم حتى الآن، بوصفها معطىً من معطيات الحضارة (أو العكس) التي هي الجانب المادي والنظام السلوكي والسياسي ومستويات التفكير ودرجات تطوير وسائل الحياة. والحضارة في المفهوم الجديد المنطقي ليست مجموعة حضارات «سادت ثم بادت» كما هو سائد عن الحضارات في جنوب شبه الجزيرة ومصر وبابل العراق وسورية الكبيرة وما قبلها في اليونان وفارس والصين مثلاً، وما بعدها في أرجاء كثيرة من الكوكب الأرضي... بل هي جميعها حلقات في سلسلة واحدة بمعناها الأعمق، ينطلق التالي منها من تجربة السابق، ويضيف إليها حلقات أخرى تصبح امتداداً لما قبلها، ومنطلقاً لما بعدها، فالمعيار هنا يتعلق بمدى درجة الانفتاح العقلي على حقائق الكون والحياة، لا بالنظر إلى كون كل «حضارة» مجرد واحة في صحراء زمن معين ازدهرت حيناً من الدهر ثم طواها النسيان. وتأسيساً على ذلك فإن محاولات «التحديث» بمثابة عمل تنامي مستمر يهضم ما قبله، ثم ينتجه عصارة جديدة ليست محاكاة من كل الوجوه ولا تفرداً من كل الوجوه. وبمعنى آخر يكون «التحديث» في الإبداعات بأنواعها مقابلاً لعمليات «تطوير» الوسائل المادية، فاختراع أداة الكتابة (القلم) مثلاً بدءاً من الأحجار والأشجار وانتهاء بالقلم الضوئي الذي يبث رسائله ومدوناته إلى كواكب أخرى عبر قنوات متطورة، لعل الهاتف النقال (الجوال) مثلاً، يأتي في أدناها، مروراً بالشبكة العنكبوتية والليزر... (ويخلق ما لا تعلمون)، فلا أحد يدري أن ما يحدث في حياة البشر الآن من تحولات مذهلة في تقنية الوسائل واستكشافات العقل، وومضات «الحدس الروحي» بلغ نهاياته وبدأ يعود دائرياً نحو نقطة البداية حينما أدرك رد فعل الطبيعة في الإنسان والأرض والفضاء... أم أن النهاية تقبع هناك في نهاية طريق التقدم باتجاه طولي نهائي في آخر المطاف: (إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً).
إنني أخوض في هذا المضمار من دون اختصاص فلسفي، ولا ثراء كبير في المعرفة، بل بتلقائية وتأمل شخصي قادني إليه الجدال الذي يدور بين الأديبين الناقدين: أدونيس وعبدالله الغذامي، اللذين يتهم كل منهما الآخر بالرجعية والتقليدية في الحداثة، فليس عيباً أن يكون كل منهما تقليدياً في حداثته أو عصرياً فيها، فالتقليدية حلقة متقدمة - زمنياً - في سلسلة تستطيل وتمتد دوماً نحو مستقبل سيصبح هو نفسه ماضياً، ولكنه ليس لاغياً في ضوء ما ذكرناه. السؤال هو: ما مدى إضافة كل منهما في السياق الحداثي الذي لا يعني بالضرورة البعد الثقافي للتغيير، وحده، ولا يقتصر على الخطاب النخبوي الذي يتجه إلى شريحة قرائية واحدة؟ لقد شغل كل واحد منهما نفسه بعيوب المجتمع القبلي الذي أخذ في بعض نماذجه التي لا إطار لها، يسبقهم إلى «حداثة» لا علاقة لها بالقصيدة والسرد والانثربولوجيا واللسانيات، وهي نماذج تبحث عن إطار ينتظمها من خلال منظومات لا يزال العرب والمسلمون يتعثرون في الطريق إليها، بسبب غياب «الصيغة» العملية التي تصهر كل أو معظم «الشتات» القبلي، المذهبي، الطائفي، الاجتماعي، الكامن في الأعماق. وليس بالضرورة أن يكون «النموذج» دائماً غربياً، إلا من حيث الإفادة من إيجابيات الفكر الغربي أو الشرقي من دون وقوع في فخ الأيدولوجيات المخادع. أدونيس والغذامي كلاهما يغترفان من حوض المعرفة الكبير المتجددة مياهه باستمرار، وهما ماهران في التنقيب والبحث والاسترفاد والفهم والهضم وإعادة التمثيل والإنتاج من خلال قدرات ذهنية لافتة ورؤية قوية وقدرات تعبيرية وحجاجية مؤثرة وجذابة.
هذه القواسم المشتركة بينهما لا تعني أنهما متشابهان من كل الوجوه، فأدونيس شاعر بارز وشاعريته هي التي عززت شهرته في شريحة كبيرة من «مجايليه» وبخاصة الشباب، إلى جانب غزارة انتاجه والمساحة الرحبة التي مكنته من قول ما يريد، اتفق الناس معه، اختلفوا حول أفكاره وأشعاره، وهو قارئ للتراث العربي من الطراز الأول مهما كان رأيه في هذا التراث أو بعضه، ومتابع للدراسات الحديثة في جذورها القديمة وامتدادها الحديث، أفاد منها قاصداً أو غير قاصد في أطروحاته.
يختلف عنه الدكتور عبدالله الغذامي في الوسط الذي يتحرك من خلاله، وفي كونه باحثاً ناقداً طغى على محاولاته الشعرية، وكلاهما أحرقا العمر في البحث ووهم التغيير عن طريق الشعر والنقد من خلال نظريات فلسفية ولغوية هي ذاتها صارت تنتقد ذاتها في أوساطها الغربية، لا سيما في بريطانيا وفرنسا، والأخيرة تكاد تكون المنهل الكبير الذي ينهل منه المفكرون العرب خصوصاً المغاربة على حد تعبير بعض الباحثين.
كثيراً ما أحدس بأن الدكتور الغذامي يتمتع بقدرات ذهنية ومعرفية أكبر من الميادين التي حَجَرتْ من واسعه، وما زلت أراهن بأنه سيتجاوز فضاء النقد الأدبي والثقافي إلى فضاءات الفكر التي تؤسس لسياق فكري تستمد منه أجيالنا الشابة التي ما زلنا نشيّد لهم أقفاصاً ذهبية للشعر والسرد، وما إلى ذلك من الأنماط التي لا تعد من أساسيات الوجود الإنساني التي تنهض من حيث المبدأ من المقومات الضرورية النفعية والنظام الإداري والسلوكي والضوابط العدلية.
ربما أكون مخالفاً في اعتقادي بأن جماليات الفن من الناحية الوظيفية، معادل لغوي لجماليات الورود في الطبيعة، تريح النظر ولا تطرد المعاناة، لم يكن أحد من الأنبياء المرسلين لإخراج الناس من الظلمات إلى النور شاعراً، فحسبك أن (الشعراء يقولون مالا يفعلون) وأن الكذب «الجميل» هو سالكوجية الشعر، والصدق والحق هما روحاً الإيمان، والإيمان ليس مفهوماً فقهياً واجتهاداً تقليدياً، أو ظاهرة غيبية (فيتازيقية) كما يبدو لكثير من منظري الحداثة، بل هو رقي ذاتي وسلوك اجتماعي نبيل، أي أن صاحبه الواعي يعد مفردة قوية متينة من مفردات المجتمع القوي... مدينياً كان أم مدنياً.
أخلص إلى التأكيد بأن كلاً من: علي أحمد سعيد (أدونيس) وعبدالله محمد الغذامي، مرحلة من مراحل التحديث عن طريق اللغة، كلاهما تقليديان وحداثيان معاً مهما كانت درجة تأثير كل منهما، كل منهما عَلَم يبحث عن مزيد من العلمية، وهي خاصية بشرية لا تعد عيباً إذا كان الباحث عنها جديراً بها، وكل منهما جدير بقدر ما قدمه من جهود يعترف بها معاصروهم، وإن اختلفوا معهما في زاوية الرؤية وآليات البحث، جملة أم تفصيلاً.
عمر طاهر زيلع
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد