دمشق تختنق والحلول مازالت في حيز اللغة
نادراً ما يتمكن المواطنون هذه الأيام من الوصول في الموعد أو إنجاز عمل ما خلال فترة النهار، فأزمة السير واختناق الطرقات، المشهدُ الذي نعايشه يومياً يجعل من فكرة الدخول إلى مناطق دمشق الرئيسة لإنجاز اي عمل فكرة مرعبة وعبئاً ثقيلاً، وفي كثير من الأحيان ليست إلا مضيعة للوقت، وقد قدرت إحدى الدراسات التي أعدتها وزارة النقل كلفة تأخير وصول الركاب ووسائط النقل نتيجة الاختناقات المرورية في عام 1998 بنحو 4 مليارات و200 ألف ليرة سورية، فهل يمكن أن نتوقع الرقم الذي وصلت إليه الخسارة اليوم..؟
في معظم دول العالم هناك ساعة ازدحام طبيعية يُطلق عليها (Rush hour) تترافق مع وقت خروج الموظفين وأصحاب النشاطات المختلفة إلى أعمالهم صباحاً ومساءً، يكون فيها التدفق المروري على الطرقات أثقل من المعتاد، ولكنه يعود إلى وضعه الطبيعي على مدار اليوم، أما في دمشق فأصبحنا في السنوات الأخيرة نعاني يومياً من (Rush hour) طويلة المدى على مدار اليوم وازدحام مروري خانق يبتلع أوقاتنا ويأكل من أعصابنا، حتى أن الطرقات تعبت من ثقل الضغط عليها وتكاد ألا تتنفس الصعداء إلا في أيام العطل الرسمية حين يخفّ الضغط نوعاً ما عن المدينة.
أصبح الدخول إلى المدينة عبئاً يثقل ليس فقط كاهل المواطن البسيط الذي يضطر لركوب وسائط النقل الاعتيادية، بل وأصحاب السيارات الذين يواجهون معضلة إيجاد مواقف لسياراتهم، حتى ان الكثير من الناس بدؤوا يفضلون عدم خوض تجربة عبور المدينة خلال النهار واصطياد الأوقات المناسبة لإنجاز أعمالهم، كي لا يدخلوا في عرقلة السير التي تستمر على مدى اليوم.
مشاهد يومية لاختناق الطرقات، والعاشرة صباحاً حتى الرابعة بعد الظهر يعايشها بشكل خاص أولئك الذين تتطلب طبيعة عملهم (لسوء الحظ) أن يخرجوا يومياً إلى الشوارع المزدحمة في تلك الأوقات، و تبدو أجزاء كثيرة من الشوارع الرئيسة وكأنها عنق زجاجة يستعصي فيها على السيارات المتدفقة في عدة اتجاهات أن تمر، فتتكدس لتطلق المزيد من الدخان والضجيج لساعات وساعات.
في الوقت الذي تمكنت فيه دول أخرى تعاني ضغطاً سكانياً يفوق ما لدينا، من إدارة أزمتها المرورية بكفاءة، تبدو الحلول لدينا مستعصية، وهذا يطرح تساؤلاً مشروعاً: هل فكرنا بالأزمة في وقت متأخر؟ فالشوارع تبدو وكأنها صُممت لتخدم أعواماً معدودة فقط، لا لتستوعب الأعداد المتزايدة من السيارات.
لم تحلّ الحلول البسيطة التي نُفذت مؤخراً الأزمةَ بل نقلتها إلى أماكن أخرى، فنفق الأمويين حوّل الازدحام الذي كانت تعاني منه ساحة الأمويين إلى شارع الثورة، ونفق العباسيين نقل الازدحام إلى الزبلطاني، وبقيت أجزاء من الشوارع الرئيسة تغص بالسيارات إلى درجة ان بعض المعنيين بحلّ الأزمة حذروا إثر دراسة من جايكا للوضع المروري في دمشق من ان عبور المدينة أو حتى الحركة فيها ستصبح شبه مستحيلة إذا لم توضع حلول جذرية للأزمة، فهل أخذنا بعين الاعتبار في الحلول المنفذة الوضعَ المروري في مختلف أجزاء المدينة أم انها كانت تعالج منطقة بعينها دون الأخذ بعين الاعتبار الأزمات المرافقة التي تنتج عنها، وعلى أي أساس تستند هذه الحلول؟.
انتهت الحلول الارتجالية
المهندس طارق العاسمي مدير هندسة المرور والنقل في محافظة دمشق يقول: صحيح أن الحلول السابقة لأزمات المرور كانت ارتجالية، ولكن هذه المرحلة انتهت، فقد تم تحديد مواقع العقد الطرقية والأنفاق وفق مخطط مروري معدّ للتنفيذ خلال الخطة الخمسية العاشرة بناء على دراسة شاملة فامت بها جايكا للازدحام المروري على المحاور الرئيسة في المدينة كافة، لكن تنفيذ هذه الخطة يحتاج لوقت، وبالتالي لا يمكن تنفيذ كامل العقد على أي محور مرة واحدة (الأمويون -فكتوريا)، فهذا يستدعي قطع السير بهذا المحور نهائياً، بالإضافة لعدم الإمكانية من ناحية التمويل.
ويؤكد المهندس العاسمي ان هذا المخطط المروري يتضمن حلولاً للغزارات المرورية ستخفف الضغط بشكل واضح بعد إتمام تنفيذها، فهناك محور المهدي بن بركة من الأمويين حتى جسر الفيحاء ندرس إمكانية تنفيذ نفق طويل بحدود 1800 كم يبدأ من الآمرية وينتهي بدوار المزرعة للسير العابر، ويكون محوراً بديلاً لمحور شكري القوتلي بحيث لا يضطر المواطن للدخول إلى مركز المدينة، وهي دراسة لا تزال في مرحلة التدقيق، وبعد نفق الأمويين أصبحت الغزارة تدخل بشكل مريح حتى جسر الثورة، وهناك فكرة للبدء بشق طريق الملك فيصل، وإذا نُفذ سيخفف الضغط على شارع بغداد ويتيح استمرارية الحركة المرورية.
المشكلة الأصعب هي في الخروج من المدينة، فالخروج منها صعب وخاصة عند نقطتين: (سادكوب) و(باب الجابية) فهما تشبهان (عنق زجاجة)، ولكن هذا مشمول في دراسة محور شمال -جنوب، وستتحسن الحركة المرورية بعد تنفيذ الحلول، ولكن هناك نقطة هامة لا يمكن إغفالها، فهذه الحلول يمكن أن تصبح أسهل من ذلك عندما تكون هناك منظومة نقل جماعي متكامل تبدأ من المترو والمونوريل والترولي باص والميني باص والميكروباص والتكسي، وهذا الأمر يتم بالتنسيق مع وزارة النقل لوضع منظومة نقل متكاملة للمدينة.
المواطن والتغيير
ومتى سيشعر المواطن ببعض الانفراج في الحركة المرورية؟
يحتاج الأمر إلى بعض الوقت، لدينا حلول سريعة التنفيذ، نعتمد الآن على مبدأ توحيد الاتجاهات في المدينة لتبقى الحركة المرورية مستمرة، ولكننا نعاني من عدم تقبل المواطن لهذا التغير، فالمواطن تعوّد أن يسلك الطريق باتجاه معيّن على مدى عقود، وعندما تُغيّر اتجاهات المرور فأنت تغيّر جزءاً من ثقافته.
وهناك حلول بعيدة المدى مثل ملف المترو وإخراج نقاط الجذب المروري من داخل المدينة، وهذا الأمر ربما يظهر أثره عند إنجاز المجمع الحكومي في المعضمية الذي سيخرج الدوائر الحكومية والوزارات كافة من مركز المدينة كافة، أما فكرة إخلاء بعض مناطق المدينة من السيارات وإبقائها معابر تنقل المشاة، فلا يمكن تطبيقها إلا بعد أن نؤمن منظومة نقل تخدم المواطنين بشكل لائق ومريح.
هل ندخل عصر (المترو والمونوريل)..؟
أصبح الحديث عن منظومة نقل متكاملة ركيزة أساسية في أية جهود لحل الأزمة المرورية، وقد سمعنا في السنوات الأخيرة عن مشاريع لوسائط نقل جديدة علينا يعوّل عليها كثيراً في تخفيف الضغط المروري على أجزاء كثيرة في دمشق كالمترو والمونوريل، فإلى أين وصلت هذه المشاريع؟
الدكتور محمود الحفار مدير الدراسات في وزارة النقل يقول: هناك لجنة عليا تشكلت منذ عام تقريباً لمتابعة هذين المشروعين، وهي تجتمع دورياً للنظر بالمستجدات والتطورات في هذا المجال، فعلى صعيد المترو وافق بنك الاستثمار الاوروبي على تقديم منحة غير محدودة لتحضير الإضبارة التنفيذية لخط المترو الأول بعد تدقيق مساره ضمن مدينة دمشق، والمقرر أن يمتد بين السومرية والقابون، ويتم حالياً تأهيل الشركات العارضة لإجراء هذه الدراسات وتحضير الإضبارة الفنية المتكاملة، علماً انه سيتم وفق البرنامج الزمني الانتهاءُ من تحضير الإضبارة الفنية بشكل كامل في منتصف عام 2007 لتتم المباشرة بعدها بالتنفيذ.
أما المونوريل، فقد قامت وزارة النقل بالتنسيق مع شركة (إم ترانسز) الماليزية بإعداد دراسة شبه متكاملة لخط المونوريل الأول والمقرر أن يمتد من ساحة المواساة مروراً بساحة الجمارك -كفر سوسة -باب مصلى -باب شرقي -العباسيين -ساحة الكراجات، ولهذا الخط أهمية نقلية كبيرة، حيث إنه يحيط بمدينة دمشق من جهاتها الشرقية والجنوبية والغربية، وهو يؤمن ارتباط المناطق والأحياء المختلفة ويصلها مع بعضها، وسيتم عرض هذا المشروع لتنفيذه بطريقة الـ (BOT).
ويشير الدكتور الحفار إلى ان تنفيذ مشاريع النقل الجماعية التي تعتمد على الطاقة الكهربائية ستكون له فوائد متعددة، وخاصة من النواحي البيئية، فهو سيخفف من التلوث البيئي بدخان عوادم السيارات، كما انه ذو أثر حضاري حيث يرتقي بمدينة دمشق إلى مصاف المدن ذات التنظيم المروري والنقلي المعاصر الذي تستحقه مدينةٌ كدمشق، والأثر الأهم لهذاالنوع من المشاريع تخفيف الاختناقات المرورية والازدحامات على الطرق والشوارع والساحات في المدينة وتنظيم الزمن اللازم للرحلة (السفرة) دون تأخير، حيث إن تأخير وصول الركاب ووسائط النقل الناتج عن الاختناقات المرورية ضمن ساحات وشوارع المدينة قُدّر في عام 1998 بنحو 4 مليارات و200 ألف ليرة سورية.
الأزمة والمخطط المروري
ولكن في غمرة حماسنا لحل أزمتنا المرورية واختناقات الطرقات، علينا ألا ننس اننا نتعامل مع مدينة لا تشبه غيرها من المدن، المدينة الأقدم في العالم والتي يشبه التحرك فيها تنقلاً في مدينة أثرية حية، ولهذا الوضع الفريد خصوصيته التي لا بد من مراعاتها ودراسته بشكل متأنٍ كيلا نمنح المدينة مساحات على حساب الحضارة الأقدم في العالم، وكي لا تكون حلولنا مجتزأة، وفي هذا الخصوص يرى الدكتور راجح سريع رئيس قسم هندسة النقل والمواصلات في كلية الهندسة المدنية في حديث خاص لـ (البعث) انه لا بد من وضع خطة متكاملة لتحسين الوضع المروري الحالي واستيعاب التطورات المستقبلية من خلال الربط بين احتياجات المرور وتخطيط المدن، وعلى وجه الخصوص مسألة توزيع مراكز السكن ومراكز الأنشطة المختلفة التي تكون المولد الأساسي للغزارات المرورية، وهذا يستدعي التنسيق بين جهات إدارية مختلفة، فالحلول للأزمات المرورية يجب أن توضع ضمن مخطط عام لا أن تكون بشكل مجتزأ وذلك يتطلب برنامجاً زمنياً للتنفيذ لأنه لا يمكن حل الأزمة خلال وقت قصير، لا بد أن تتحمل المدينة نوعاً من الزحام المؤقت، فشبكات الشوارع والمرور تعمل بشكل مشابه للأواني المستطرقة، فحل المشكلة في مكان ما دون وضع حل آخر يعني نقلها من مكان إلى آخر، وهذا ما حدث بين نفق الأمويين وشارع الثورة، وبين ساحة العباسيين والزبلطاني، وبعد الزبلطاني ستنتقل الأزمة إلى الشيخ رسلان فالعقد الطرقية يجب ألا تدرس بشكل معزول ونقطي عن العقد الأخرى، وقد أجرت محافظة دمشق مؤخراً مسابقة لوضع مجموعة بدائل وحلول للربط بين شمال المدينة وجنوبها ودراسة التقاطعات كافة ضمن هذه المنطقة.. نحتاج إلى مثل هذه المسابقات التي تأخذ بعين الاعتبار منطقة جغرافية كاملة بالتوازي مع خطة للنقل.
إخلاء المدينة
لكن الدكتور سريع يشير إلى انه في كل المدن القديمة التي جمعت بين القديم والحديث، خلال فترة زمنية قصيرة دون منهجية واضحة للمستقبل المروري، يمكن أن نتوقع مثل هذه الأزمات، وأحياناً لا تكون هناك حلول جذرية لعدم توفر المساحات الكافية لإنشاء الحلول المرورية الكاملة، فعلى سبيل المثال: شارع النصر وجزء من شارع الثورة -المرجة -بوابة الصالحية هي منطقة تجمع بين مراكز تجارية وحكومية وأنشطة مختلفة (فنادق ومطاعم) والشوارع في هذا الجزء من المدينة تعمل بسعتها الأعظمية، وعناصرها الهندسية لا تساعد على تنفيذ الحلول الكاملة،إضافة إلى وجود المرافق العامة والمناطق الأثرية التي تزيد من صعوبة تنفيذ أي حلّ.
وتعاني دمشق من اكتظاظ كبير في أعداد السيارات، فبدلاً من أن نعمل على أن تصل السيارة إلى كل بيت يجب أن يتم التركيز على إخلاء بعض مناطق المدينة من السيارات وتحويلها إلى حركة مشاة تكون مريحة للعابرين من 200 -300 متر مع البحث عن بدائل للنقل السريع، فحتى الآن لا تزال الحلول تتجه نحو وسيلة نقل واحدة (الباصات أو الميكروباصات) لكن التجربة العالمية أكدت انه لا توجد وسيلة واحدة لحل الأزمة، وانه لا بد من التوجه نحو تعدد وسائط النقل العام (المترو -الباصات -الباصات صغيرة الحجم لبعض أجزاء المدينة -الترام) إثر دراسة فنية لكل حالة.
غياب الرؤية المرورية الواضحة
وحول تقييمه للحلول الهندسية التي نفذت خلال الفترة الأخيرة للتخفيف من أزمة النقل، يؤكد الدكتور سريع: (ضمن المدن القديمة التي تطورت بسرعة وبغياب وجود خطة مرورية واضحة، أي حل مروري لن يقدم حلاً نهائياً، بل ستكون حلولاً جزئية، مخطط مدينة دمشق وُضع على أساس تطور المدينة حتى المحلق الجنوبي على أن يتم التوسع على شكل ضواحٍ ترتبط مع المدينة بطرق ربط سريعة، وهذا الأمر لم يتم الالتزام به، توسعت المدينة خارج حدوده وأصبح المحلق ملاصقاً تماماً كشارع من شوارع المدينة، واقتربت التوسعات السكنية حتى أصبحت ملاصقة للمدينة بما فيها المخالفات، وساهم التأخر في إنجاز المتحلق إلى تفاقم المشكلات، فقد وُضعت الدراسات في السبعينيات وانتهى جزؤه الأول في الثمانيتيات، والآن هناك صعوبة في استكماله لأنه يمر الآن ضمن عشوائيات، والسبب عدم الحفاظ على شريعة الاستملاك والتأخر بالتنفيذ.
المحافظة بحاجة إلى تكثيف اهتمامها بالدراسات المرورية التي تعطيها مؤشرات عن زيادة غزارات المرور والتغيّرات الموسمية والسنوية، لا بد أن تضع في الاعتبار كل هذه العوامل عند اختيار مناطق النشاط الاقتصادي، فهناك مناطق تم اختيارها بشكل غير موثق (المنطقة الحرة قرب الجمارك -مستودعات التبغ والتنباك -مستودعات التموين الملاصقة لمحور رئيسي من محاور المدينة، الدوار الجنوبي -والمديرية العامة للجمارك التي يتسبب موقعها في أزمة مرورية خانقة من ازدحام الشاحنات مثل هذه المواقع بحاجة إلى إعادة نظر).
الأزمة تتفاقم يوماً بعد يوم، فهل يخرج الأمر عن نطاق الجدل وتبادل الآراء إلى حيز التنفيذ، وهل سيشهد المواطن انفراجاً على المدى المنظور؟.
سؤال ننتظر الوقائع لتجيبنا عنه.
سهام طلب
المصدر: البعث
إضافة تعليق جديد