سهيل إدريس .. أكثر من رجل لأكثر من مهمة
حقبة كاملة من عمرنا الثقافي تنطوي بوفاة سهيل إدريس وتدخل في التاريخ. حقبة ليس فيها إلا الكثير ومن كل شيء. الكثير من الناس والأحداث والمعارك والأحلام والمبادرات والخسائر. فسهيل إدريس كان دائماً في غمرة مشروع ومشروع أكبر من أن يتحقق في عمر واحد وبرجل واحد. ونحن إذ نطالع حياته نجد في مفارقها، ليس فقط الفصل الأمامي في ثقافتنا لكن موجات كبيرة وتيارات ومراحل. الفتى المعمم الذي رمى العمامة جانباً بعد أن ضاق بالشيخ الصغير الذي كانه، سافر إلى باريس، لم يكن يترسم خطوات طه حسين لكن طريق طه حسين كانت ذلك الحين أكثر من سيرة شخصية. ما بين الأزهر وباريس امتدت ملحمة جيل، وعلى بعد ما بين الاثنين كان لدى سهيل إدريس من التفاؤل ما جعل القفزة ممكنة. إذا كان طه حسين التقى بديكارت وأندريه جيد وسوفوكل في باريس، فإن سهيل إدريس التقى هناك بجان بول سارتر وألبير كامو، لكنه قبل كل شيء التقى هناك بالبوادر الأولى للمغامرة القومية. لم يكن الوحيد في ذلك. جنبه نخبة من هؤلاء الذين كانت الرحلة إلى باريس بالنسبة لهم بحثاً عن الذات، الذات التي بحثوا عند برغسون وسارتر وكامو عن فحوى لها. كانت هذه محاولة لإيجاد صعيد فلسفي للفلسفة القومية. محاولة لم تكن الأولى فربما كانت لها سابقة عند ميشيل عفلق الإنسانوي ذلك الحين وزكي الأرسوزي الباني فلسفته على عبقرية اللغة، في حين كان آخرون يبنون على الجيوبوليتيك وعلى عنصرية مضمرة. لقد كانت باريس بالنسبة لإدريس ورفاقه كما كانت اللغة الفرنسية محلاً لترجمة الذات أو اجتراحها. أدرك ادريس مبكرا، انه مندوب لمهمة مزدوجة. لم يكن المتأمل او الكاتب فحسب، لكن بالدرجة نفسها، الناشر والمنظم والمحفز. كان غير متوقع أن يعود حامل دكتوراه كسهيل إدريس بمشروع مجلة. فعل هذا طه حسين لكنه قبل ذلك وبالتوازي معه شغل عمادة الجامعة، بل ووزارة التربية. سهيل إدريس كان بالتأكيد من أولئك الذين يعرفون كيف يبنون ابتداء من الصفر، وكيف يسهرون بانتظام على رفع البناء لبنة لبنة. انضباط وانتظام ومخيلة وحدها تصنع مشاريع. سهيل إدريس من اللحظة الأولى صانع مشاريع. حياته في الواقع هي هذه المشاريع التي يكبر أي منها عن طاقة رجل واحد. كان لديه في آن واحد مشروعه الروائي، وبالفعل ظهرت حلقته الأولى «الخندق الغميق». «الخندق الغميق» فاتحة عمل روائي قام في الأساس على السيرة الذاتية، إذا كانت الخندق الغميق سيرة الطفولة البيروتية فـ«الحي اللاتيني» سيرة الشباب الباريسي. لا بد من أن هذه الجرأة على الذات، وهذا الكشف عن الذات، كانا جديدين في الرواية العربية. طه حسين من الأوائل الذين جعلوا حياتهم موضوع كتابتهم، مثل طه حسين روى سهيل إدريس حكايته مع المعهد الديني وحكايته في باريس. لكن يوم إدريس كان غير «أيام» طه حسين. مهما بلغت سخرية الثاني وتحرره إلا أنه كان يسوق ذلك بقدر من الوقار والحرص وتأبّ عن الحميم وتورع عن مس قواعد الحشمة. ليست «الحي اللاتيني» بهذا الحرص ولا بهذا التحبب، فهي أيضاً رواية تمرد وانتهاك واجتراء على العمود الأخلاقي وغوص في الحميم، لكنها أيضاً رواية تفاؤل وتطلع الى المستقبل. بوسعنا أن نقول إن الرواية تستحق الضجة التي أعقبت صدورها، فهي على نحو ما رواية جيل. ذلك المزيج من الرغبة والطموح والنوستالجيا القومية والتفاؤل كان ركيزة ما يمكن أن نسميه آنذاك بـ«الحلم العربي». وقد آلى سهيل إدريس على نفسه أن ينشر هذا الحلم. غدت «الآداب» الصادرة في بيروت مركزاً للقاء النخبة، لكن أيضاً كانت مصنعاً لثقافة جامعة، فالمجلة الصادرة في أصغر بلد عربي كانت حاملة هذا المد القومي الذي تدفق بشبه معجزة وصنع لتوه صعيداً واحداً وسقفاً واحداً. حملت «الآداب» هذا المد أو بالأحرى تكتلت بصياغته ثقافيا. كانت ساعة التجديد، التجديد في الشعر والرواية والمسرح والفن التشكيلي والنقد والإيديولوجيا وهذه جميعها تفتحت في الآداب. لقد كانت هذه مصنع ما سماه طه حسين بـ«الثقافة الجديدة»، كانت الوجودية مطعمة بماركسية قومية هي أساس دعوة بدت في ضوء المرحلة أوضح مما كانت عليه وأكثر تماسكاً، لكن «الآداب» كانت أيضاً عبقرية في الصحافة الثقافية، رسائل من باريس وموسكو وبغداد و... غنية وجدية، سجال متحرك في أبواب النقد ونقد النقد. أعداد خاصة بعضها عن الفن التشكيلي يومذاك، ترجمات لنصوص كاملة بعضها لسارتر وبريخت وبيرانديللو... معاصرة تتواقت هذه المرة أو تكاد مع اللحظة العالمية، كانت هنا جنينة زاهرة حقا، لكن تحت السطح كانت تتكون نماذج جامعة في الأدب والفن. رواية الآداب بالطبع متعددة ولا تقف هنا لكن بوسعنا مع ذلك أن نتكلم عنها كمدرسة وناشر للحداثة، كإيديولوجيا قومية وحارس على أن لا تفلت هذه من النطاق القومي. إنها رواية متعددة بالتأكيد، ومع تراجع المعجزة وانحسار المد وتشظي المشروع الجامعي صارت للرواية حلقات أخرى. الآداب كأكثر من مجلة، لكن أيضاً مع مشروع لا يقل تطلباً: المنهل قاموس عربي فرنسي مع جبور عبد النور، ثم دار الآداب إحدى الدور العريقة القليلة التي تصنع كتّاباً، كيف تتسع حياة واحدة لكل هذه الإنجازات وكل واحد منها فوق طاقة رجل. كيف تنجح كلها ويغدو كل منها مثلاً. إنه سر سهيل إدريس، والأرجح أن الزواج بين الرغبة والتنظيم بين المخيلة والحساب، بين الجرأة والمثابرة أثمر ذلك كله. لقد أعطى سهيل إدريس اسمه لحيوات كثيرة، لذا فإن موته يمر بلطف وهدوء كأنه لم يحدث.
عباس بيضون
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد