الشعر بوصفه مرآة الشاعر
( كم من الوقت يلزم / كي أغلق باب بيتك / و أتجه إلى اليمين حيث يقع الشارع / و مثل أي متطرف سأنظر إلى الخلف / لعلك تفتحين الباب مرة أخرى / و تعيديني إلى الماضي .. إليك ) الشعر بوصفه المعادل الآخر للحياة ، بوصفه مرآة الشاعر ، صورته أمام نفسه ، بوصفه إعلان صريح عن خيباته و هزائمه ووقوفه تماما على الحد الملاصق للحنين و للفقد ، بهذا المعنى يتحول الشعر خاصة و الكتابة عموما إلى درجة عالية من درجات البوح ، وبهذا المعنى أيضا تصبح الحكاية الشخصية ،حكاية أي منا ، حكاية عامة و جمعية تحصل مع أي شخص و يصبح الشاعر هو المعني بعملية التحويل هذه .
في ( أندلوثيا ) أحمد تيناوي يتجه النص الشعري نحو هذا المنحى ، حيث التجربة الشخصية هي المفتاح الأول للعبور نحو حالة الشعر كمفهوم عام ، وحيث الطقس اليومي لتلك التجربة هو طقس القصيدة ذاتها ولكن بإحالات معرفية تستدعيها ذاكرة الوعي المتشكلة من حصيلة تراكمية سيسقط الشعر حتما دون وجودها و سيتحول إلى مجرد سرد لأحداث لا يحمل أية قيمة فنية يعول عليها في تشكيل الذائقة أو في متعة القراءة إذا اعتبرنا أن ثمة هدف أساسي للشعر هو خلق المتعة و الحرص على تشكيل ذائقة شعرية عالية لدى متلقيه .(عندما التقيت بك في محطة الحجاز /عربة جمال باشا السفاح / كنت اعرف أننا لن نذهب إلى أي مكان / فانا لا اشعر أنني قديم مثل دمشق / و لا عابر مثل غرناطة / أما أنت فقد جئت لتتعلمي أحجية اللغة /التي جعلت الموريسكيين حلا وسطا لكل الأمكنة المناوئة للعشق ) ، و من البيت و الرصيف وسائق التكسي و بائع اليانصيب و علبة التبغ و أعواد الثقاب و أسماء الحواري و الأسماء التاريخية و أسماء الأشخاص ، يشكل احمد تيناوي طقسه الشعري الخاص به، تماما مثلما يشكل لغته التي لا تهتم كثيرا بالنظريات عن الشعر و عن العلاقات اللغوية وعن علاقة اللغة بالتخييل ، فكأنه يكتب نصه دون العودة إليه لاحقا ، يكتبه كدفق شعوري ، كتنهيدة عميقة تخرج منه ليشعر بالارتياح ، و كأن الكتابة عنده نوع من العلاج الذاتي لاستعادة التوازن و التصالح مجددا مع الحياة ، أو كان الشعر لا يحتمل أكثر من تلك اللحظة الآنية المتوهجة التي أخرجته ، وعلى الآخرين أن لا يطالبوه بما لا يحتمل ،
(لم يتغير شيء / كنت كلما أحببت فتاة / أو لنقل أنني توهمت أنني أحببت فتاة.. أتوقف عن كتابة الشعر / ربما لأنني شاعر "بارت تايم " / أو لأنني عاشق أيضا بارت تايم ") .
و تتشكل "لوثيا" ، القصة الشخصية لأحمد تيناوي ، في نصه الشعري كإحدى النساء اللواتي يشتغل عليهن وعيه و ذاكرته الشعرية ، و كأن لكل شاعر حبيبته الخاصة أو ملهمته إن صح التعبير ، هذه الملهمة التي تساعده على رؤية ما حوله بمنظار جديد ومختلف في كل مرة ، فإذا غابت هذه الملهمة رجع الشاعر إلى عاديته ، إلى ملله و إلى ضجره و إلى مألوفية الأشياء حوله و روتينها اليومي القاتل ، ولا جدواها ، وهذه الملهمة نفسها هي فكرة الشاعر /أحمد تيناوي عن الحب و فكرته عن ارتباط عالمه بحبه "الفنتازي" لها حتى و إن كانت هي واقعا وحقيقة ، وحتى لو كانت إحداثياتها الذاتية مشابهة لإحداثيات أية امرأة أخرى ، فعلاقته كشاعر مع هذه الإحداثيات تنطلق من كونها ،الملهمة، طريقته الخاصة اكتشاف الدهشة اليومية ، وطريقته في إدراك فهمه لعالميهما المختلفين ، فلوثيا أحمد تيناوي قد تأتي من بلاد الأندلس فيسقط عليها كواحد من سلالات رجال المشرق العربي ، أولى هزائم العرب بسقوط غرناطة وضياع ملك العرب في الأندلس ( كم مرة رأيت في عينيك بريق ملوك الطوائف / هزيمتهم / ركنهم المعزول يمين الأندلس / لم تسعفني ذاكرتي جيدا / لم يسعفني وقت البحر / كل الخرائط كانت تنتهي إلى سرير الكراهية / فماذا افعل بتلك الجغرافيا التي تصوبينها نحو جسدي ) و قد تأتي أحيانا أخرى من قلب الشرق ، من تدمر فيسقط عليها أيضا رؤية الغرب الاستشراقية للبادية العربية و لتاريخ بلاد العرب الطويل (في تدمر كان المطر يجثو على ركبتيه/ منتشيا بالبلل المحيط بقدميك ،/ أما الجمال المسكونة بالأساطير / فقد كانت صادقة مثلك تماما عندما ارتاحت / مذعنة لتضاريس الهزيمة / في تدمر ) و قد تأخذ هذه اللوثيا أسماء مختلفة تظهر في لحظات اللاوعي الشعري ، و تظهر أكثر في إهدائه في مقدمة قصائده ( إلى ديمة هذه المرة ) إذ يشتغل الشاعر على ملهمته كما يحلو له ، كي يؤكد أنها ضد الإحداثيات المتعارف عليها، و إنها وسيلته للشعر أولا و أخيرا ، وسيلته للبوح و للاعتراف بضعفه و بهزيمته و باخطائه الإنسانية ، فكأنه بهذا يعلن انه واحد من سلالات الشعراء العشاق في العالم ، مهما اختلفت أسماء النساء فثمة ملهمة واحدة لن تتغير أبدا .
و حتى لو كان الشعر مجرد شحنة شعورية آنية ،كما يراه أحمد تيناوي، إلا أنه قادر على حمل موقف الشاعر من العالم ، قادر أن يكون أحيانا صرخة احتجاج ليس ضد العالم ككل بل ضد ما يراه الشاعر مراوغا و غير حقيقي لا سيما في الشرق الذي ينظر إليه أحيانا بعيني " لوثيا" ملهمته و محبوبته ، فهذا الشرق المكشوف على كل المستويات تغطى الحقيقة فيه بآلاف الأقنعة المزيفة تحت اسم الفضيحة ( كل الأشياء من حولنا عارية / لماذا إذن نخجل من أجسادنا و نحن نقول لا/ لا لموتنا / عبارة تبدو غامضة بعض الشيء/ فهنا في الشرق/ يجب أن نستر عوراتنا ونحن نصرخ ) .
يشكل المكان ، كمحدد وملموس ، عنصرا أساسيا يتكل عليه نص أحمد تيناوي (اندلوثيا) فالمهاجرين وباب توما و تدمر و محطة الحجاز و غرناطة و دمشق و الغرفة في أعلى الدرج في الجادة الثالثة و مرمر و ركن الدين و جبل طارق و دمر و نيويورك ، أسماء يحتشد بها النص بكثافة ،مما يدل مرة أخرى على آنية اللحظة الشعرية التي لا تأتي من التأمل بالمكان كتفصيل صغير من تفاصيل الكون بل من المكان بصفته الكون ، فعلاقة أحمد تيناوي بالمكان مرتبطة تماما بوجود (لوثيا) حبيبته و ملهمته معه فيه ، فإذا غابت تحول ذات المكان إلى شيء لا معنى له و هامشي و بائس و لا يستدعي الانتباه ، وتصبح ذاكرته عن لوثيا بديلا عن المكان/الكون (وهناك /حيث تبدو البيوت الفقيرة مرصعة بالصحون اللاقطة / متشابهة/ كما لو أن البشر الذين يسكنون فيها ينتمون إلى بلد واحد / أنا في منزلي الآن / في غرفتي أشعل المدفأة / و انتظر الضيوف / و لا يأتي أحد ) .
( أندلوثيا ) قصائد لأحمد تيناوي صادرة عن دار كنعان في دمشق /2008 / بعد مجموعته الأولى ( رماد ) التي صدرت عام 1984 أكثر من عشرين عاما بين المجموعتين ، و مازال الشعر لديه حالة دفق شعوري ينتظر دائما المعجزة /عودة الملهمة كي لا يسقط الشاعر و قصيدته في الملل .
رشا عمران
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد