الأنوثة في فكر ابن عربي
من ايمان الكاتبة نزهة براضة، بأن مفهوم الأنوثة لم يلق الاهتمام المناسب لموقعه في فكر ابن عربي، عكفت على كتابها «الأنوثة في فكر ابن عربي» وصدر حديثاً عن «دار الساقي» في محاولة منها الى تمكين القارئ من متعة استكشاف مفهوم الأنوثة في فكر ابن عربي، وأسراره البلاغية والرمزية. نزهة براضة تجد بشكل عام، ان طريقة التكتم المعرفي تتعمق اكثر متى تعلق الامر بالأنوثة، من كون المرأة وسط بنية اجتماعية ومعرفية، تحكمها السلطة الذكورية، لذلك اجتهدت الى خطاب الشيخ الأكبر، وعكست في كتابها «الأنوثة في فكر ابن عربي» عمقه وشموليته المفضيان الى خطاب الأنوثة. «النص الأكبري» لابن عربي يشهد في اتساعه وتشعبه على مركزية الأنوثة في ثنايا النص، وفي سياق مركزي ضمن ديباجة مؤلفه «الفتوحات المكية» وضمن مؤلفات عديدة اخرى. كما ترى براضة ان ارتكاز فكر ابن عربي على الأنوثة ساهم، مع عوامل اخرى، في فتح آفاق لاعادة تأسيس المفاهيم والمبادئ والتصورات على اساس نظرة متميّزة للأنوثة.
تقدم الكاتبة بداية، ان ابن عربي هو محي الدين محمد بن علي بن محمد العربي الطائي الحاتمي، الملقب بالشيخ الأكبر وسلطان العارفين والكبريت الاحمر، ولد سنة 1165 بمدينة مورسيا (شرق الأندلس) تحت حكم الموحدين، وانتقل مع اسرته الى اشبيلية وهو في الثامنة من عمره حيث درس جميع علوم عصره (القران والحديث والفقه واللغة والآداب والتصوّف...) الى ان تعدد براضة اساتذة لابن عربي منهم الفيلسوف أبا الوليد بن رشد، الى معرفته الصوفية التي جمعت بين تحصيل المعرفة وتجربة الخلوة والرؤية الروحية والتنقل بين شيوخ المتصوفة في المغرب والمشرق. اهم اعماله الموسوعية «الفتوحات المكية» و«فصوص الحكم» و«ترجمان الأشواق» الذي وضعه تشببا بجمال ابنة شيخه في مكة (مكين الدين الاصفهاني). في تقديم المؤلفة لابن عربي ما يمهد لخطاب الأنوثة، محتويات كتابها، حين تؤكد على تتلمذ ابن عربي على شيوخ الطريق الصوفي ومنهم الرجال والنساء، بل ان لحضور النساء في حياته دوراً في توجهه نحو التصوف، فكان لزوجته مريم بنت محمد بن عبدون البجائي، الاثر في انخراطه في هذا الطريق، وكذلك الامر بالنسبة الى المرأة المحبة فاطمة بنت ابن المثنى القرطبي التي يقول ابن عربي فيها: «وخدمت أنا بنفسي امرأة من المحبات العارفات بأشبيلية، يقال لها فاطمة بنت ابن المثنى القرطبي، خدمتها سنين وهي تزيد في وقت خدمتي اياها على خمس وتسعين سنة، وكانت تقول لي: أنا امك الالهية، ونور أمك الترابية». وحينما منحه الله حق الشفاعة في مبشرة، كانت اربعة نساء هن اول من اختار ليطلب الشفاعة لهن. توفي وعمره يناهز 78 سنة، ودفن عند سفح جبل قاسيون شمال دمشق.
«خزائن ابن عربي» بهذا التمهيد الذي يوضح علاقة معرفية ونورانية لابن عربي بالمرأة، استهلت نزهة براضة، لتدخل بعدها الى خزائن هذا الفكر الموسوعي، الفريد في استشرافه وخصوصيته، مبرزة عمقه وغناه، مضيفة على ما اعتبرته ناقصا في بحوث ودراسات من سبقوها، في خطابه عن الأنوثة في سياقات ودلالات جديدة. ذلك ان منظومة الشيخ الاكبر التي انبنت على معرفة ذوقية وقلبية، لم تقتصر على العقل ومبادئه المنطقية التجريدية، ولم تقف عند حدود معرفة الظاهر، بل تؤكد ان الحب منبع وسبيل للمعرفة والوجود، وتقر بأن الانجذاب والنكاح قاعدتان لايجاد العالم ولظهور الموجودات.
هذا المنطق المعرفي عند الشيخ الأكبر (ابن عربي) ينطوي على الاعتراف بالحب وبموقعه المركزي في المعرفة وفي الوجود، ويفتح المجال لإبراز الدور الخلاق للاخر، اذ لا يقوم الحب إلا بفضل التعدد الذي تترجمه علاقة الذات (الأنا) بالاخر، علاقة يترجمها حضور الذكورة والأنوثة باعتباره حضوراً شرطياً وضرورياً لكل موجود اكان مجردا او حسيا. وبذلك ـ تقول الكاتبة ـ فإن هذه المقاربة تتعارض في أسسها مع الفكر الذي يمكن نعته بالفكر الاحادي.
تشكل الأنوثة، بالنسبة لابن عربي، احد الاركان المحورية في فكره، وقد استفاضت الكاتبة براضة في هذا المحور، بل واعتبرت ان خطابه، في عمقه وشموليته، مكاشفة قلبية ذوقية محملة بالدلالات الرمزية، بل تشير الى وراثته للحقيقة المحمدية. ذلك ما يقوم به عيسى ـ تقول الكاتبة ـ ويترجم عنه علي بن ابي طالب، ويحمل ابن عربي في المرتبة التي تلي عيسى، موقع الوريث.
حضور الأنوثة في الخطاب الاكبري وفي ما اكدت عليه براضة، يخترق تصوّر الشيخ للوجود واكون والانسان واللغة والعرفان والسلوك والخيال... ويتقاطع عبرها النسائي بالانساني بالوجودي. وحتى تعلق الحديث عند ابن عربي بالأنوثة فإنه يعلن الحضور الضمني او الصريح للذكورة نظراً الى قيام فكر ابن عربي على قطبية وجودية تتشابك من خلالها الأنوثة بالذكورة.
اقتران الأنوثة بالحب عند ابن عربي، ترى فيه الكاتبة كشفا عن سبيل الى الصفاء لبلوغ الاصل وعلاقته بالفرع، ليشمل العالم الانطولوجي والكون والانسان والاشياء ويبدو ان ارتكاز هذا الفكر على مبدأ الأنوثة، وضعنا امام السؤال في الكتاب عن مفهوم الأنوثة والذكورة عند ابن عربي، وهو سؤال قد يشرع باب الحيرة، اذ ينفي الخطاب ذاته تأثير الأنوثة والذكورة في إنسانية الانسان من ناحية، ويؤكد من ناحية اخرى انهما حقيقتان تميزان كل الكائنات بما فيها الانسان، وهي مسألة تقتضي عدم تناول هاتين المقولتين بمعنى واحد.
كما تتناول الكاتبة قيام فكر ابن عربي على التأويل، وعلى رمزية العبارة حيث يتسجيب لتصوره الذي يرى ان كل اشكال الموجودات (الكائنات، العلاقات، العبارات...) تقةم على اساس التركيب بين ظاهر وباطن. فيصير التأويل منهجا مناسبا لمقاربة فكر ابن عربي، خاصة اذا كان الغرض هو الغوص في معاني النص، وعدم الاقتصار على رصدها وترتيبها. كما ترى الكاتبة، ان التأةيل نفسه، يفرض نفسه على الباحثين بحكم ما يطرحه مفهوم المعنى او «الحقيقة» في نص ابن عربي، حيث لا تعبّر الحقيقة عن نفسها بأسلوب واحد، بل تتعدد بتنوع وجوهها وبتباين المواقع التي تشاهد منها.
كتاب يستحق التأمل والقراءة، في جهد الكاتبة اولا التي تقدم الى نص ابن عربي، كحقل خصب لصوغ أسس نظرية وأدوات منهجية تكسر طوق الانغلاق المفاهيمي والمعرفي، وتفتح آفاقاً لتعدد القراءات لقضايا مبنية على حضور الأنوثة والذكورة.
الكتاب: الأنوثة في فكر ابن عربي.
الكاتبة: نزهة براضة.
الناشر: «دار الساقي».
عناية جابر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد