محمد ملص: «تراودني فكرة أنّ العدو يدمّر المدينة والسينما تعيد بناءها»
عند أطلال «سينما الدنيا» في مدينة القنيطرة التي دمّرها الإسرائيليون قبل انسحابهم منها (1974)، وقف محمد ملص (1945)، أمام كاميرا لوران بيار، يروي حكايته مع المدينة التي شهدت ولادته ونشأته وحكايته مع السينما والصورة والأحلام. الشريط جزء من مشروع بعنوان «نظرة» ينجزه المخرج الفرنسي عن سينمائيّي شرق المتوسط، لمصلحة القناة الفرنسية الثالثة، بهدف تصحيح النظرة الإعلامية المغلوطة عن الضفة الأخرى للمتوسط ومقاربة تجارب سينمائية تعبّر عن هوية أصحابها.
تحت شمس حزيران (يونيو)، استعاد ملص ذاكرته عن المدينة القديمة وتحديداً «سينما الدنيا». الصالة التي أسهم والده في بنائها. في عتمة هذه القاعة، شاهد ملص أول أفلام حياته، ما حوّل هذا الفنّ لديه إلى شغف سينذر له مسيرته الفنيّة. ذات يوم قرّر أن يهجر دراسة الفلسفة، والتحق ببعثة لدراسة السينما في موسكو. فيلمه التسجيلي الأول «قنيطرة 84»، أهداه إلى مدينته المهدّمة، وسيبقى دليله إلى مشاريعه السينمائية والأدبية الأخرى، كما هي الحال في روايته الوحيدة «إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب»... ثم فيلمه الروائي الأول «أحلام المدينة» (1984). وهو صورة روائية مكبّرة عن الشريط الأول، استعاد فيه صورة الجد القاسي، والأم المحزونة في غياب الأب، ورحلة النزوح من القنيطرة إلى دمشق. سيروي الطفل حكاية العائلة، واحتفالات عيد الجلاء، والوحدة مع مصر، والانقلابات السياسية، وأحوال الشارع الوطني. فيلمه الروائي الثاني «الليل» (1992)، محاولة لترميم الذاكرة الواقعية بذاكرة مشتهاة. فبدلاً من أن يموت الأب في الجامع (1949)، كما حدث في الواقع، مقهوراً بسبب الانقلاب العسكري الأول في سوريا على يد حسني الزعيم، يختار لشخصيّته موتاً آخر في حرب الـ 1967، وهو يقاوم الإسرائيليين، قبل أن يستبيحوا المدينة.
القنيطرة التي صوّر فيها «الليل»، كانت إذاً مدار رحلة جديدة لاستعادة المكان المفقود. هذه المرة يعود ملص إليها شاهداً، برفقة لوران بيار، وابنه عمر الذي أدّى دور الطفل في الفيلم أو «علاالله الصغير». لكن الطفل كَبُرَ وصار سينمائياً أيضاً، وها هو يتلمّس خطواته الأولى كذاكرة أخرى للأب، كي يكمل مسيرة الحلم السينمائي. يقول ملص وهو يقف إلى جانب جدار مهدم من البازلت: «لدي احتياج شخصي إلى أن تحل ذاكرة الفيلم مكان ذاكرتي الشخصية، بما يجعل الشريط وطناً وبيتاً وعالماً حميمياً». يصمت قليلاً وهو يتأمل خراب المدينة حوله: «الآن تراودني فكرة أنّ العدو يدمّر المدينة والسينما تعيد بناءها». لكن لماذا اختار ملص أماكن فيلم «الليل» ليصوّر فيلماً عن حياته الشخصية؟ وجد لوران بيار أن هذا الفيلم يعبّر بعمق عن سينما ملص أولاً، وعن سينما عربية تعمل على الشاعرية والحميمية، كما تتمتع بتقنية عالية، ما يرشّح الفيلم للعرض في فرنسا.
في الساحة حيث انطلقت الشاحنة التي نقلت المتطوعين في جيش الإنقاذ ذات يومٍ بعيد، كان ملص يروي أمام كاميرا لوران بيار ذكرى أخرى عن أهمية الصورة الفوتوغرافية في توثيق الأحداث. فقبل أن يغادر المتطوعون القنيطرة إلى فلسطين (1936)، وقفوا أمام عدسة مصوّر فوتوغرافي لالتقاط صورة جماعية للذكرى، وهي أحد مشاهد فيلم «الليل». في المشهد التالي من الفيلم، سيصيح المصوّر بهم لأخذ الصورة معهم ويقول إنّه يحتفظ بنسخة «النيغاتيف». لكن أحداً منهم لم يسمعه. هنا يعلّق ملص:«الصورة الفوتوغرافية شكل من أشكال اللغة البصرية كما أنّها وثيقة مهمة، ما جعلني أؤكد على أهميتها في الفيلم».
بعد تجوال في أماكن الذاكرة، سينتقل السينمائي السوري إلى مقبرة المدينة، برفقة ولديه عمر ونوّار. هذا مشهد صامت ومؤثر بلا شك. فجأة يتوقف أمام قبر بسيط من دون شاهدة، بجوار شجرة بطم: إنّها العلامة الوحيدة على صاحب القبر... والد محمد ملص. المشهد استثناه من فيلم «الليل»، وترك السؤال معلّقاً، في الحوار بين الابن والأم، حين يسألها «أليس لأبي قبر؟». فتجيبه: «اذهب وابحث عنه». يتوجه إلى نوّار بالكلام: «هنا يرقد جدك، ماذا تريد أن تقول له؟». يجيب الطفل بخجل: «أعدك أن أكون شجاعاً مثلك». وينتهي المشهد بلقطة يظهر فيها محمد وهو يقرأ الفاتحة على روح والده. هذه الروحانية هي إحدى سمات سينما ملص، هناك على الدوام مشاهد قدرية، وربما صوفية إلى حدّ ما، تُذكّر بروحانية أفلام تاركوفسكي. سينما تعتمل بالفقدان والخسارة واللحظات الوجدانية المؤثرة، فتلجأ إلى الذاكرة لترميم المشهد بصورة مغايرة ومشتهاة، انتقاماً من همجيّة محو الذاكرة. يقول ملص «أرى أنّ القبر في السينما أوسع من مكان صغير، محاط بشجرة أو حجر».
«الليل» إذاً، ليس مجرد اسم لفيلم، إنّه مفردة أساسية في معجم ملص. منها يسترجع مناماته التي هي أحد مصادر إلهامه... كما أنها مرآة لطفولة بعيدة، حين كانت أمه تروي مناماتها على مسامعه، ما كوّن مخزوناً حكائياً وبصرياً في تجاربه السينمائية. نتذكر هنا فيلمه التسجيلي «المنام» (1980) الذي التقط فيه منامات لاجئين فلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا في بيروت.
يبني لوران بيار فيلمه على حركتين: الأولى عن المكان المفقود، والثانية عن المشكلات والعوائق التي يواجهها السينمائيون في بلدان شرق المتوسط... سواء لجهة التمويل، أو لجهة الرقابة، والموقف السياسي لهؤلاء المخرجين. وفي الشريط الذي يسترجع مقاطع من «الليل»، يتحدث ملص عن موقفه من الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، ومفهومه للسلام
يقول لوران بيار: «أفلامي محاولة لتقريب وجهات النظر بخصوص السلام. وأعتقد بأنّ السينما تؤدّي دوراً فعالاً في هذا المجال، إذ سيعرف العالم أنّ الوجع الحقيقي الذي سببته إسرائيل، ليس دمار الأمكنة ومحوها، بل الدمار النفسي الذي لحق بالفلسطينيين والسوريين وسائر العرب، منذ النكبة إلى اليوم».
خليل صويلح
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد