عبقريات إعلامية ثاقبة
الجمل - خطيب بدلة: الأستاذ غازي أبو عقل- نفعنا الله بـ (عقله) الذي يزن الجبالَ رزانةً على حد تعبير جرير والفرزدق- أرسل إلي رسالة طويلة تتحدث عن رجل عبقري ملأت شهرته الآفاق، وهو في الواقع شخص صغير، محدود، يعيش على موائد الشعارات وممالك التعبير والإنشاء.
قرأتها بتمعن، ثم دار بيني وبينه حوار طويل ومتشعب، يتعلق بالعبقريات الإعلامية الثاقبة، أو (الناقبة) على حد تعبير عمتي الحاجة عيوش، رحمها الله، التي كانت تسمي ثقب الأوزون (نقب الجَرَازون)،.. هذه العبقريات التي تتكاثر بالانشطار مثل الأميبيا، ونحن نتعثر بها حيثما مشينا حتى لنكاد نقع على رؤوسنا نكساً!
كتبت له في إحدى الرسائل سيرة لواحد من أصحاب هذه العبقريات الناقبة هي التالية:
في يوم من الأيام..، وعلى حين غرة، ومن دون سابق تنبيه أو إنذار، ظهر على شاشة أحد التلفزيونات الحكومية العربية مذيع ألمعي (ما جابت النسا مثله، ولا قَمَّطَت الدايات!)، مذيع ذو طلة عذبة، وابتسامة غامضة كابتسامة الجوكندا، وذكاء وفطنة ونباهة، وكل شي.
وكان ذلك المذيع يشتغل على النحو التالي: يسأل الشخص الذي يلتقي به سؤالاً، وبمجرد ما يرد الشخص بجملة يرددها المذيع ويُتبعها بإحدى العبارات التالية: (شي عظيم)- (شي رائع)- (يا سلام!).
وهو لم يكن مذيعاً وحسب، بل كان له إلمام كبير في الإخراج التلفزيوني، فكان لا يقدم أية حلقة من حلقات برنامجه العتيد إلا بالطريقة المفاجئة، فإذا أراد أن يصور في مستشفى حكومي، مثلاً، كان يدخل على عناصر المستشفى وهم منهمكون في العمل: طبيب يعاين مريضاً ويحنو عليه، ممرضة تمسح جبين مريض آخر، وأخرى تطعمه بيدها، وعاملة النظافة تمسح البلاط بكل جد وإخلاص، والتصوير شغال، والإيكو والتحليل والرنين المغناطيسي والطبقي المحوري، حتى ليضطر المشاهد أن يعرك عينيه ليتأكد من أن هذا المستشفى يقع في ذلك البلد العربي وليس في سويسرا أو الدانمارك!
وبعد أن ينجح ذلك المذيع (بأخذنا على قدر عقولنا) وإيهامنا بأنه دخل على المشفى دون علم إدارته، يبدأ بإجراء حواراته الألمعية.
وذات مرة دخل صاحبنا إلى جناح مشفى فيه جرحى كارثة طبيعية حلت ببلده، فسأل أحد المرضى عن سبب وجوده هنا، فقال المريض:
- أصبت أثناء وقوع الكارثة!
أبدى المذيع دهشته القصوى وقال للمريض: أثناء الكارثة!؟ شي عظيم!
ثم سأله: أين الإصابة؟ فأشار المريض نحو ساقيه، فصاح المذيع:
- أصيبت إحدى ساقيك؟ شي رائع! فقال المريض مصححاً:
- ليس في إحدى ساقي، بل كليهما.
فهلل المذيع، وكبر، والتفت نحو الكاميرا وقال:
- خسر ساقيه الإثنتين في الكارثة! يا سلام!
أي والله يا أستاذ غازي أبو عقل، كان ذلك المذيع يطرب لوقوع الكوارث، ويسر كثيراً حينما يسمع بشخص أصيب، أو قتل، أو تشقف، لا لشيء إلا لأن هاتيك البلاوي تساعده على قول عباراته الشهيرة: عظيم! رائع! يا سلام!
هذا المذيع دخل مرة، في إحدى حلقات برنامجه الذي يحمل عنوان "مواطنون شرفاء"، إلى مدجنة، وتقدم من أحد العمال، وكان شاباً طويلاً ترتسم على وجهه علائم البلاهة، ويرتدي في ساقيه جزمة من النوع التي كان يسميها الصديق الراحل عبد العزيز حربا "الجزمة الربَّاطيّة"، وسأله عن اسم هذه المنشأة، فقال: مدجنة!
فهتف المذيع: مدجنة؟! شي عظيم!
ثم طلب منه أن يفتح له قاووش الدجاج (الهنجار)، فلما فتحه رأى الآلاف المؤلفة من الأخوة الديوك الصغار جالسين على هيئة كتلة متراصة، مترامية الأطراف، يأكلون العلف ويشربون من الماء الدائر أمامهم ضمن أنابيب مثقوبة (منقوبة!)، ويصوصئون دون انقطاع، وعلى نحو يصم الآذان، فقال للعامل، جرياً على عادته في السؤال عن الأشياء التي لا تحتاج إلى سؤال: وما هذه؟
فقال العامل بلغة حاول أن يجعلها فصيحة لئلا يزعل منه الإعلاميون الملتزمون بقضايا أمتهم، الحريصون على لغة الضاد التي تعرضت، وما تزال، تتعرض، من يوم أن وجدت على سطح الأرض، إلى هجمة إمبريالية شرسة، ومؤامرات (حداثوية) حقيرة الهدف منها تسليم هذه البلاد المعطاءة لقمة سائغة للأعداء الذين يتربصون بها الدوائر:
- هذه، يا أستاذ، كتاكيت، يعني صيصان، عمرها عشرة أيام، وبعد شهر تقريباً تكون قد كبرت، فتتحول إلى شلافين، عفواً، أقصد تتحول إلى ديوك، أو فراريج!
كرر المذيع عبارة العامل كلها، دون زيادة أو نقصان، وأتبعها بعبارة (شي رائع)! ثم سأل العامل:
- ولكن قل لي، ماذا تفعلون بها بعد أن تصبح ديوكاً، أو فراريج؟!
ضجر العامل وقال بنترة: أنا بعرف خيو؟! اسأل المعلم.
فقال المذيع: المعلم؟! يا سلام!
وذهب إلى صاحب المدجنة الذي يلقبه عمال المدجنة " المعلم"، فلم يجده، فوقف أمام الكاميرا، الوقفة الطولانية التي يسميها فنيو التلفزة: (ستاند)، وقال: دعونا نتابع فقرات برامجنا هذا في مكان آخر.
وأجرى قطعاً مونتاجياً، وانتقل إلى مكان في سوق المدينة وُضعت في واجهته نملية، ذات ثقوب (نقوب) واسعة، تجلس فيه، بأكابرية لا تخفى على المتفرج الحصيف، مجموعةٌ من الديوك التي تجاوزت مرحلة الصيصان، يقف بجوارها عامل ذو صوت يسميه أهل الطرب (فَلخة) لأنه صوت قريب من صوت النسوان، يصيح بلا انقطاع:
- قرب على الفروج! طيب الفروج! عايش الفروج!
سلم المذيع ذو العبقرية الناقبة على العامل، دون مصافحة، وتابع سيره إلى الداخل حيث وجد مجموعة من العمال الأنيقين الجالسين على هيئة مربع ناقص ضلعاً، وكان أحدهم يعزف على العود، وآخر على الدربكة، والآخرون يرددون معهما ويدبكون على إيقاع أغنية: البلبل ناغى ع غصن الفل، آه يا شقيق النعماني، قصدي ألاقي محبوبي، بين الياسمين والريحاني.
بلباقته، وكياسته، وابتسامته الجيوكندية الغامضة، اعتذر المذيع للمطرب والدبيكة عن كونه قطع جلسة صفائهم (فهو يصر على أن برنامجه يأتي عفو الخاطر) وسألهم وهو يشير إلى آلتين مرتفعتين عن الأرض وكأنهما طاولتا (بينج بونج): وهدول شو؟
فبدأ العامل الفنان عازف العود يشرح، والمذيع يكرر عباراته الثلاث الأثيرة:
- هذه ذباحة! يأتي الزبون ويشتري الفروج الحي من النملية، فنلقي به هنا، فينذبح، فنفتح الغطاء ونحمله ونضعه في الآلة الثانية، واسمها النتافة، فتنتف ريشه، ويصبح جاهزاً، نضعه في كيس ونسلمه للزبون.
قال المذيع كمن اهتدى إلى قفلة مناسبة لبرنامجه:
- الله أكبر، ويأكل منه المواطنون الشرفاء؟! يا سلام!
ـــــــــــــــــ
ملحوظة: لا بد من الإشارة إلى أن المواطنين غير الشرفاء، كالحرامية والمسؤولين، يستهلكون من الفراريج أضعاف ما يستهلكه المواطنون الشرفاء!
الجمل
إضافة تعليق جديد