..وكان للعلوم عند العرب عصر ذهبي يا كتبة الصراخ والفرادة والغلبة!
على شاشة، في قسم مخصص لعلم الفلك، يشاهد الزائر ما يشبه التقرير عن إسهام العرب القدماء في هذا العلم. يشرح مختصون من غير العرب عن ذلك، وتمر صور وأمثلة، وتصاحب ذلك كله موسيقى كالتي تستخدم عادة لتصاحب نهاية تراجيديا مؤثرة لما يشبه الملحمة السينمائية.
تستمر هذه الموسيقى، وتأتي الجملة الأخيرة التي تختتم التقرير مترجمة: »وهكذا، مهدت مساهمات العرب لنشوء علم الفلك الحديث«. جملة كهذه، بمصاحبة تلك الموسيقى، لا بد أن تترك أثراً. معرض »العصر الذهبي للعلوم عند العرب«، الذي افتتح في دمشق منذ أيام، يأتينا بجعبة وافرة من إشارات التعجب والاستفهام. المعرض الذي تستضيفه احتفالية دمشق الثقافية هو ببساطة الأول من نوعه، لجهة الموضوع والإحاطة به. الأول ربما منذ كانت البلاد العربية معرضاً »حياً« للعلوم أيام ذلك العصر الذهبي الآفل.
لكن هذا المعرض لم يؤسس ليخاطب الزوار العرب! وهذا ما يمكن فهمه من عدة نقاط. عام ،٢٠٠٥ ارتأى »معهد العالم العربي« في باريس إقامة هذا المعرض، تحت العنوان ذاته. يقول المدير العلمي في المعهد إن الهدف الأساسي منه هو تعريف الأوروبيين بالعلوم العربية، وقت كانت في عصرها الذهبي. دافعهم إلى ذلك هو »التوعية«. يقول إن الأوروبيين كانوا يظنون ـ إن لم يكونوا مقتنعين ـ خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، أن إسهامات العلماء العرب تنحصر بنقل وترجمة العلوم القديمة، سواء اليونانية أو الهندية. أي أنهم كانوا مجرد ورثة أمينين، فيما الحال التي أراد المعرض، والمعهد من خلفه، الإضاءة عليها هي غير ذلك تماماً.
جمع معرض باريس عام ٢٠٠٥ قطعاً أثرية ومخطوطات حول العلوم العربية من أربعين دولة. تجاوب معه الجمهور هناك، وحقق وقعاً جيداً. لاحقاً، لفت المعرض انتباه المسؤولين عن احتفالية الجزائر، عندما كانت عاصمة للثقافة العربية العام الماضي، فاشتروه!
المعرض الذي اقتنته الجزائر ليس المعرض نفسه الذي أقيم في باريس. ولدى المعهد الآن نسخة من المعرض يجول بها على العالم، نسخة مطابقة لتلك التي باعها للجزائر، يجدها من يحتاجها من الدول العربية فيستنسخها المعهد له. المعرض على ما يبدو »بياع«، واستثمار لا بأس به.
قام »معهد العالم العربي« بنسخ المقتنيات المتحفية، وقدّم، إلى جانب ذلك، خلاصات تتعلق بإسهامات العلماء العرب في مجالات مختلفة وعرّف بهم. استفاد من التقنيات، وجهز بالعديد من الشاشات التي تبث بعضها شروحاً قدّمها علماء ومختصون فرنسيون، حول كيفية استخدام بعض الأدوات التي ابتكرها العرب وطوّرها، مثل الأسطرلاب. شاشات أخرى تبث مقابلات توضح ما الذي أضافه العلماء العرب، وابتكروه، في مجالات مثل الرياضيات والفلك. وفي بعض الشاشات، تحضر تطبيقات مباشرة لابتكارات في الرسم الهندسي. يمكن القول، بعد التجول في معرض دمشق، إن المادة البصرية السمعية (الشاشات) هي ركيزة المعرض. فهي، إلى جانب المعلومات، تضفي حيوية عليه، وتخرجه عن رتابة المألوف في معارض شبيهة.
لكن هذا المعرض لم يُؤسس، فكرة وتنفيذاً، ليقدم في بلدان عربية. هناك علماء فرنسيون يستثمرون لإيصال صوت المعرض، ليسمعهم مواطنوهم (الأوروبيون) ويقتنعوا أن لا علاقة للأمر بالخطابات الدعائية، وإنما بواقع وقع، ولو أنه ارتبط بالعرب الذين لم يعد لهم شأن يذكر في قيادة دفة العلم الحديث، وإن كان حاضرهم قد لا يحمل أي دلالة عليه، لكن لا بد من الإشارة إليه، والاعتراف به وبما قدمه للحضارات الإنسانية. الإشارة إليه تماماً كما يشار إلى غيره. ممارسة تفيد دينامية التفكير والتاريخ وجدليتهما.
هذا المعرض للأوروبيين. السؤال هنا: ألا نعرف، نحن العرب، أكثر بكثير عن انجازات ذلك العصر العربي؟ ألا نعرف رواده وأبطاله وما فعلوه؟ ألم نتعب، كما يقال، من الخطابات الماضوية التي لا تزال حتى الآن تتغنى بإنجازات الماضي، ونريدها أن تولي العناية الأكبر للحاضر المفجع؟ إذا كنا نعرف، فلماذا المعرض؟
لكننا لا نعرف.
المشكلة في الخطابات التي حملت »المعلومات« عن الأمجاد العلمية العــربية أنها كانت تريد التعبئة والتغطية والاستثمار. لم تكن المعلومة، والمعرفة في المجمل، هدفاً. كانت أي شيء، ويمكن أن تكون غيره ببساطة، مجرد وسيلة لحياكة ثوب يستر الواقع ويعمي عنه. كانت المعلومة في الهامش البعيد، والأولوية للنبرة العالية وموارباتها. لم يكن هناك هدوء، وفسحة للتأمل. نذكر حتى الكتب المدرسية التي تتعرض للعلوم العربية القديمة وازدهارها. قبل أن يقال فيها شيء عن العالِم أو المفكر وما فعله، كان لا بد من موشحات التغني بالأولوية والسبق والفرادة والغلبة. كانت النبرة عالية في الكتب، والصراخ أينما حل لا يفيد المعرفة في شيء. كنا موزعين بين من يصرخ، ومن لا يعرف، والأرجح أن المعرفة بريئة من الإثنين، الأول أكثر من الثاني.
في مقدمة المعرض المقام في متحف دمشق، هناك استهلال. يتحدث منظمو المعرض عن العلوم وكيف مرت عند العرب بمرحلة النقل والترجمة بداية (بين نهاية القرن الثامن للميلاد وبداية العاشر) ثم إلى مرحلة الإنتاج والابتكار ونشره. تلي ذلك إشارة إلى أن »المحرك الأول لهذه الظاهرة بلا شك كان ظهور الدين الجديد ونصوصه التي تشجع بشدة مزاولة العلوم«. تأتي هذه الإشارة من ضمن إشارات أخرى إلى دور اللغة العربية الموحد، ودور الطوائف الأخرى التي كانت تحتفظ بمعارفها الغنية وبتراث من العلوم القديمة التي كانت، واستمرت، قيد المزاولة عندها. لا صياح هنا. لا صراخ.
لو جُيّر لكتبة الصراخ ان يحرروا النص السابق لبرعوا في تحويله الى نص لا يطاق، مكتوم المعرفة لصالح مقدمة مدوية عن نصرة الدين ومفاعيله السحرية. أو أن الفضل سيجيّر، ويصير الخبر عن إنجازات الحكّام.
المعرض للأجانب، ونحن أجانب عن موضوعه. لا يعني ذلك على الإطلاق التقليل من سوية المعرض. فهو مصمم ومشغول باحتراف، لينوّر ويوعّي غير العارفين بموضوعه. وهو في هذا السعي يصل ويؤثر من دون شك.
نحن لا نعرف، والمعرض للأجانب. ولأنه مؤثر وجذاب اشترته الجزائر، وتستضيفه دمشق. هل حولتنا فنون الصراخ إلى أجانب عن تاريخنا وعن واقعنا؟ لا نثق بها، ولو غيرت عــاداتها حيناً، لتقودنا مدّعية النــوايا السليــمة إلى المعــرفة. هل نحن بحاجة إلى مـعرض كهذا؟ نحن بحاجة إلى أن نعامل كأجانب تماماً، ونؤخذ بروية الروية الى الفكرة، كي لا نجفل من ذكرياتنا عنها وحواشيها.
نحن بحاجة إلى أن نعامل كأجانب وأن تكون المتعة أيضاً، ومعها الجمال والفن، في المقدمة في حسابات من يتوجهون إلينا. عليهم أن يراعوها ويأخذوها على محمل الجد، وإلا فلينسوا التواصل معنا ومواضيعه. نحن أجانب إذا رأينا أن الشروط الفنية والجمالية لا تراعي حسّنا وإنسانيتنا، وأن طريقة الحديث وسياقاته لا تحترم عقولنا، فلا يعنينا ما يقولون. وليشتروا وليستضيفوا، لعل العدوى تصيبهم يوماً. لعلــنا نترحم يوماً على كتبة الصراخ.
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد