متحف فيكتوريا وألبرت يعرض أبرز مجموعاته للمرة الأولى في دمشق
لن يحتاج العابر في سوق البزورية، في دمشق القديمة، الى فطنة كبيرة ليتنبه الى النشاط «الخطير» الذي يستضيفه «خان أسعد باشا».
على باب الخــان، دورية لـ «شرطة النجدة». وعند مدخله عنـــاصر من شركة أمن خاصة يتصدون للتفتيش، وتســجيل الزوار، أسماء ومهناً وجنسيات. كاميرات مراقبة في كل زاوية من بهو الخان الفسيح.
حتى موظفو الآثار والمتاحف السوريون، الذين تشكل غرف الخان، في الطبقات العليا منه، مكاناً لعملهم، ليس مسموحاً لهم الدخول قبل تسجيل أسمائهم. ما الذي يحدث في الخان؟ ولماذا كل هذا التعزيز الأمني؟ هل عثروا على كنز هناك؟!
المفاجأة أن ما يحتويه الخان يتجاوز في قيمته، مادياً ومعنوياً، أي كنز! انها روائع من متحف فيكتوريا وألبرت في لندن، شحنت الى دمشق ضمن معرض «سيراميك العالم» الذي يضم 116 قطعة من نفائس مقتنيات المتحف الشهير، تعتبر إحدى أعظم المجموعات التي تبرز أمجاده، إذ انها «الأعظم والأقدم في العالم» في أصنافها وتنوعها، على حد تعبير مدير المتحف مارك جونز.
هي المرة الأولى التي تسافر فيها مقتنيات هذا المتحف، الى الشرق الأوسط. والمعرض الذي تستضيفه احتفالية دمشق الثقافية، افتتح منذ أيام ويستمر حتى 8 من الشهر المقبل.
القطعة التي تشكل واجهة المعرض، هي صولجان يعود الى فترة حكم الفرعون امنحوتب الثاني (1427-1400 ق م). يتجاوز طوله المترين، ويأخذ رأسه هيئة رأس حيوان، وتبدو بارزة عليه نقوش سوداء للكتابة الهيروغليفية.
يشهد المعرض حركة زوار نشطة. حتى المارة العاديون، في السوق المجاور، تصطادهم طريقة العرض والمقتنيات المبهرة، ما يجعل الأجـــهزة الخليوية تبذل جهداً زائداً في التقاط صورها. ولا يــــحدث ذلك الجذب اعتــــباطــاً. وإن كان إلمــــام زائر المعرض بتاريخ صناعة الخزف أمر ناجز.
واللافت ان الأمر لا يحدث في سياق تصنيف متحفي، عادة ما يكون مملاً ولا يجد من يستهويه إلا الأثريون المختصون. إذ توفر الشروحات الممتعة، الى جوار كل قطعة، مجالاً رحباً ليقوم الزائر بما يشبه النزهة الثقافية، وقد يقضي ساعات في تتبع مثير للتأثيرات المتبادلة للثقافات، عبر تحولات وتمركزات صناعة الخزف، من دون أن يشعر بالوقت.
يعبر المعرض ويشرح نفسه بنفسه، من دون أي ادعاءات. سلامة القطع التي يقتنيها متحف فيكتوريا وألبرت مذهلة، ما يدل ذلك على براعة فناني الخزف القدماء، إذ لا يزال جمال المعروضات، لجهة التصميم ومواصفاته وألوانه واضحاً.
ويعود بعض القطع الى الألف الأول قبل الميلاد، ومثلها كأس شراب على شكل رأس خنزير من أثينا (460 ق م).
التجوال بين أقسام المعرض ومحتوياته، يشبه التنقل بين فصول قصة مثيرة وممتعة. من بدائية الألف الثالث قبل الميلاد وحتى تجريدية فناني الخزف المعاصرين، تقدم المعروضات المحور المتعلق بتطور الخزف.
وقصة الخزف هي قصة الحضارة والثقافة الإنسانية. من الصين البلد الأشهر، الى التجارة مع الشرق الأوسط وإعادة التصدير الى أوروبا.
يطلعنا المعرض على التخبط الأوروبي لقرون في تقليد الخزف، حين بقيت هذه الصناعة الآسيوية سراً، وكيف كشف أحد كيميائيي الملك الألماني أغسطس العظيم ذلك السر (بداية القرن 18 م)، لكن الملك لم يهنأ بتفرده أكثر من عشرين سنة، إذ تمكنت سلسلة من أعمال الجاسوسية الصناعية من نقل سر الصناعة الى مصانع فيينا وفينيسيا.
ويصل المعرض بــنا الى «زهرية» بابلو بيكاسو المعــنونة «رسام أمام لوحته»، ونجد عليها إحدى تجليات سورياليته، كما نصادف أعمالاً لخزافين معاصرين ما بعد حداثويين.
الشروحات المــرافقة للقطع مكتوبة بطريقة تنم عن احــتــرافية ووعـــي فني عال، ويحتل إمتــاع الــزائر، ومراعاة تنوعه، أولوية فيها، إضافة الى المــلاحظــات الفــنية النقدية الحاذقة حول التصاميم والأساليب.
طريقة تقديم المعلومات يبدو أثرها واضحاً على الزوار أنفسهم. هناك شابة في المعرض تسرع الى زملائها لحفزهم على رؤية «صحن التحلية»، وهــو قطعة ذات رسوم دقتها مدهشة وجزء من مجموعة صنعت في باريس (1778) للملكة الروسية كاترين العظيمة. تستخــدم الشابة جزءاً من الشرح المرافق لــجذب زملائها، فتخبرهم: «تعالوا لتروه، لقد جعــلتهم يعيدون تصميمه ثماني مرات قبل أن تعطي موافقتها عليه».
ويمكن لبعض الملاحظات ان تستدعي الضحك لفكاهتها وسخريتها، كالتي تتحدث عن مزهرية اسمها «امرأة أوروبية» مع ان الرسم عليها يبدو لامرأة صينية، ونتفاجأ ان صانعها صيني لكن مدوّن الشرح يعلق ساخراً بأن الحرفي الذي شكلها «لم ير امرأة أوروبية من قبل، فكانت النتيجة صاعقة وغير واقعية على الاطلاق، تماماً مثل حال العديد من تماثيل الشعب الصيني التي صنعها أوروبيون».
وسيم إبراهيم
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد