إدلب تستعيد روح السخرية عبر حسيب كيالي
يعتبر حسيب كيالي واضع حجر الأساس لفن القصة القصيرة، و الساخرة على وجه الخصوص ليس في سورية وحسب بل في الوطن العربي.
تأثر في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين بـ «تشيخوف» لأنه كان يراه إنساناً لاصق الحياة الدافئة النابضة، محباً لها، مندفعاً صعداً في صيرورتها،وجنوحها إلى الزوال،و وإفساحها المجال لحياة أرفع.. و كان حسيب كيالي يجاهر في أحاديثه بتتلمذه على أدبه. ومع تطور الزمن تحرر من أستاذه واتجه نحو الواقع السوري والعربي وأبدع في التلاؤم معه. ساعده في ذلك ثقافته الموسوعية الواسعة و المدعومة بإجادته العالية للغة الفرنسية و الروسية، فإذا ما جمعنا البيئة الشعبية المحلية التي عاشها في ادلب و الشام مع الثقافة الفرنسية والروسية، مع موهبة القص الموجودة في داخله، يخرج لنا مزيج جميل اسمه حسيب كيالي، وقد ترجم عن الفرنسية (حكايات القط الجاثم)، و (رؤوس الآخرين) ونال جائزة اليسكو عن ترجمته لأعمال «ديميه مارسيل» و أكد في أكثر من تصريح له أن المترجم لا تكفيه معرفة اللغتين المنقول منها و المنقول إليها، بل عليه إجادتهما معاً ليس فقط لغوياً و إنما أدبياً أيضاً.
وقد سعت وزارة الثقافة إلى إقامة حفل تكريمي تأبيني للراحل حسيب كيالي، وإن تأخر قليلاً، لكنه حدث قبل أيام قليلة في المدينة التي ولد وعاش فيها مرحلة التكوين الفكري الأولى (ادلب)، وندوة أدبية بعنوان (حسيب كيالي وأدب السخرية) والتي سعى من خلالها الأدباء والفنانون من أصدقاء الراحل ودارسيه إلى محاولة الإلمام بأدبه وفكره.
بدأ حفل الافتتاح بإزاحة الستار عن تمثال الأديب حسيب كيالي في مديرية الثقافة بتوقيع الفنان حسام رجب، ثم افتتح وزير الثقافة الدكتور رياض نعسان آغا معرض الفن التشكيلي لأدباء محافظة ادلب، و ضم المعرض مجموعة لوحات بورتريه لأدباء من مدينة ادلب بتوقيع الفنان سمير حميدي.
بدأت الندوة الأدبية أعمالها بكلمة ألقاها محافظ ادلب الدكتور عاطف النداف افتتحها بكلمات لحسيب كيالي ادلب مدينتي ليست إلا الواقع الذي عشته بأحداثه الكبرى وتفاصيله، ثم قمت بتصويره وإنشاده، إنشاد المحب، ولاتزال حتى بعد هجري إياها هي الأكثر حضوراً وتألقاً.. بهذه الخصوصية عبر حسيب كيالي عن حبه لمدينته، ولهذا دأبت هذه المدينة على تكريم ابنها الوفي الذي حملها في قلبه، وعبر عن حبه هذا بمداد حبر قلمه الذي لم يغمد إلا بعد أن رسم بالكلمات صوراً بانورامية لمعنى الوفاء والمحبة. وأضاف: ربما نكون بهذا التكريم قد حققنا بعضاً من طموح المثقفين والأدباء في تكريس القيم الأخلاقية والحضارية.
ثم ألقت السيدة عائشة كيالي ابنة الأديب حسيب كيالي كلمة تحدثت فيها عن علاقتها بأبيها التي لم تكن في أي يوم علاقة تقليدية، ورغم لقاءاتهما القليلة إلا أنها نهلت منه الكثير،و تعلمت على يديه فن الإصغاء، وأشارت السيدة كيالي إلى أنها تمتلك الكثير من رسائل والدها التي تعكس جانباً كبيراً من حياته ولديها مخطوطات بخط يده، وقد تمنت على وزارة الثقافة أن تقوم بنشر هذه الرسائل والمخطوطات لأنها صورة عن حياة حسيب كيالي في غربته.
وختمت السيدة كيالي كلمتها بالشكر العميق لوزارة الثقافة التي باشرت بإعادة طباعة أعمال الأديب الراحل حسيب كيالي، وقد صدر الجزء الأول من أعماله الكاملة.
ثم ألقى الشاعر محمد شيخ علي قصيدة شعرية بعنوان «صلى عليك الشعر» استعار معانيها من وحي ما قرأ وسمع عن أديبنا الراحل:
الغاربان، وأنت لست تغيب / إن قلت : نِدهما فكيف أصيب
الغاربان هما وضَوْؤك ساطع / إن المواهب ما لهن غروب
لولاك ما عرف السعادة دروبها / لولاك ما احتضن السعادة دروب
بأبي العلاء معرّتي قد عرفت / وكذاك إدلب إذ تقول : حسيب
أما كلمة الختام فقد ألقاها الدكتور رياض نعسان آغا، أشار فيها إلى علاقة الصداقة الحميمة التي كانت تربطه بالأديب الراحل، و عن وفاء حسيب كيالي لمدينته التي حملها خمسين عاماً على كتفيه، وأن من يريد زيارة ادلب لا بد من أن يقرأ قبل زيارته أدب حسيب كيالي. وبعد الزيارة سيجد أن حسيب كيالي قد أخذ من هذه المدينة أجمل ما فيها وكتب عنه. وأكد السيد الوزير على ضرورة تكريم الأدباء والمبدعين لأن بهم تزدان ساحات المدن، وهي العناوين التي تدل على هوية الأمم. ثم استعرض أهمية أدب حسيب كيالي في الأدب الساخر عموماً، والقصة السورية على وجه التحديد، وإذا كان حسيب كيالي سمي «تشيخوف العرب» فإن الدكتور نعسان آغا من خلال رؤيته واطلاعه على أدبه يسميه جاحظ القرن العشرين، لأنه يمتلك أكثر من وجه، فهو كاتب وقاص، ينتمي في أدبه إلى الواقعية، يجيد التقاط السر في الشخصية الإنسانية، ومؤسس لما يمكن أن يسمى أدب التهكم أو أدب السخرية، وهو من اكتشف عظمة اللغة العامية، وختم قوله بأن حسيب كيالي الضاحك أبداً، والحساس المرهف دفع ثمناً باهظاً لحبه للسخرية.
ثم عرضت الفرقة المسرحية التابعة لمديرية الثقافة بإدلب عرضاً مسرحياً مستوحى من أدب حسيب كيالي في مقهى «أبو النوري» من إعداد خطيب بدلة، وإخراج أحمد مروان فنري، وقد حدثنا الأستاذ بدلة عن أجواء المعرض قائلاً : عندما فكرنا في اختيار عمل يجمع بين شخصية حسيب كيالي، وشخصية ادلب، خطر لي أحد المشاهد من مسرحية «سأعود إلى قتالكم» وهي مأخوذة من مجموعته المسرحية «ماذا يقول الماء» وتجري أحداث هذا المشهد في مقهى حقيقي يعرفه أهل ادلب واسمه مقهى «أبو النوري مزّق» وأبو النوري هو شخص لطيف جداً، مولع بالنظافة، يعزف على العود، ويعرف تقريباً أخبار كل شخصيات ادلب. العمل الذي قمت به هو التحوير المتعلق بإضافة سيرة عنترة التي يرويها الراوي.. فكرته من السهل الممتنع، وقد استطاع المخرج أن يقدم هذا العرض بأسلوب السهل الممتنع أيضاً، و أجاد الممثلين في أداء الشخصيات.. وهي بالمناسبة شخصيات حقيقية، واقعية، وهذا ليس ببعيد عن أسلوب حسيب كيالي حيث استطاع وببراعة اختيار شخصياته، وإبراز الحس الوطني عند هذه الشخصيات من حيث تفضيل البلد على الولد.
وعلى مدى يومين تابعت الندوة أعمالها بقراءة شهادات عن الراحل ممن عرفوه عن قرب، ودراسات أدبية ونقدية ممن قرؤوا حسيب كيالي، وأجمعت دراساتهم على أن حسيب استطاع بجهده الخاص أن يبني لنفسه أساساً لغوياً ممتازاً، فكل تركيبة أو عبارة أو كلمة تمر به يرى لزاماً عليه أن يعرف سرها في اللغة الأم، يخوض غمار المعارك الصحافية، و المجالس الأدبية، و الحوارات المتناثرة هنا وهناك دون كلل أو مهاودة، يدافع عن أصالة اللغة التي نكتب و نقرأ و نسمو بها. ولعله أول من انتبه من الكتاب السوريين إلى أن العامية المحكية يمكن صياغتها على نحو فصيح، و قد بدت تجلياته اللغوية أكثر وضوحاً في نصوصه المسرحية، التي كان يصرُّ على أن يعيش موضوعها قبل أن يكتبه، وهذا يبدو واضحاً في مناوشاته لقضايا المجتمع بشكل أساسي.
حسيب كيالي تلك الروح الكبيرة التي تحملت مشاق التجديد نحو (فن الشعب) ودفعت بالأدب السوري دفعات إلى الأمام، إلى وعي أصالته و شخصيته، إلى وعي أدائه و مفرداته.. فالإحساس بالشعب و أحواله و لاسيما بؤسه، ثم الكتابة عنه، لتبديل ما يمكن أن يكون قهراً اجتماعياً أو ظلماً، أشياء غير تصويره كواقع أو كموضوع من زوايا عشوائية أو اعتباطية.
فأدبه يعمق الصلة بين نفسه و العالم، بين إحساسه و موقفه، و الموضوعات كافة حوله.. ويتجلى في هذا الإبداع و القدرة على اكتشاف العالم مفتاح إنسانيته المتفائلة و المرحة أيضاً، و بالتالي مفتاح أساليب التصوير الفوتوغرافي أو الرصد الواقعي، بما فيه العاطفي و الرومانسي، أو التداعي النفسي و الحر، ومفتاح موقفه من الواقع حوله، من البيئة، من المجتمع. وهنا أكد المشاركون أن حسيب كيالي لم يكن متفرداً في لغة القص لديه، ولا في استبطانه العميق للشخصيات، ولا في بنائه المحكم للأحداث، ولكنه متفرد في رؤيته للعالم وفي روحه الفريدة التي تحيط بكل عناصر العملية الإبداعية، وتضفي عليها ألق الموهبة وسحر القص.
وأخيراً بوسع أي كان أن يسخر من أي شيء؛ لكن خفة الظل الفطرية والأسلوب المدهش والنظرة الخاطفة العميقة الشاملة والثقافة التي لا تقف عند حد، لأن ـ «حسيب» ـ لم يتوقف أبداً عن القراءة والقص، وغير هذه الصفات التي كانت من بعض أمتعة أديبنا الراحل ـ فهي ليست بمتناول كل عابر في شارع الأدب الرفيع الذي يُنتهك كل يوم أمام أعيننا بما يراق على جوانبه من حبر مغشوش.
عزيزة السبيني
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد