غسان رفاعي: إنفلونزا الجنون والخطايا السبع
-1- اقتحمت «إنفلونزا الخنازير» البلدان والمدن والأرياف، وبدأ الناس يرتعدون من «الطاعون الأسود الجديد» أو «هيروشيما القرن الحادي والعشرين»، ولم نعد نسمع في زحام الأخبار الفاجعة، إلا عن مؤتمرات حاشدة، يعقدها رؤساء الدول والعلماء والأطباء، لتنظيم«المجازر الجماعية» التي تستأصل هذه الحيوانات الشريرة بالآلاف، بل بالملايين، ليصار إلى حرق جثثها، ودفنها في مقابر معتمة.
غير أن مجتمع التخمة في الغرب، ومجتمع الإملاق في العالم الثالث مصابان بانفلونزا أخرى، أشد هولاً هي «إنفلونزا الجنون»، وإن اتخذت مظهرين مختلفين في المجتمعين: مجتمع التخمة يعاني من «جنون التفوق» على مستوى قادته الذين حولوا العالم إلى جحيم و «جنون الانشطار» النفسي، على مستوى أفراده العاديين الذين يترددون على العيادات النفسية، ومستشفيات الأمراض العقلية، ولا عجب إذا خصص أكبر فيلسوف معاصر (فوكو) كتابه الأساسي عن الجنون، أما مجتمع الإملاق فإنه يعاني من جنون الاضطهاد والإذلال على مستوى قادته الذين ينوسون بين الخضوع والمكابرة، ومن جنون القهر والتهميش على مستوى أفراده العاديين الذين يتأرجحون بين الانتحار المجاني والهدر المفرط.
-2-
يخطر على بالك، بعض الأحيان، وأنت تواجه الصقيع السياسي، والحقد الاجتماعي، اللذين ينفران من وجوه الناس حولك، أن ترفع الراية البيضاء، وأن تعلن، بقنوط ومرارة: «أن المعركة ميئوس منها، وأن القوى التي تواجهك قادرة على اغتيالك في وضح النهار» وفجأة، يستبدّ بك غضب أسود، فترفع قبضتك وتصرخ: «لابدّ من المجاهدة، وإن كان الثمن هو الاستشهاد!». الأمر لا يقتصر على غسل الدماغ، وحشوه «بالإفك والبهتان» وإنما هناك تصميم على استبخاس إنسانيتك، وتلويث هويتك، وتعفير عنفوانك بالتراب. (فرانز فانون) الذي حرضنا في «معذبي الأرض» على الرفض، والتمرد، طالبنا بأن «ننام في أسرة المغتصبين، وأن نشلح على شراشفهم البيضاء» وقد صفّق له (سارتر)، ورجاه أن يسمح له بأن «يجدع أنوفهم» أيضاً.
-3-
«ما الذي يدفع بالإنسان الوديع المسالم الذي بقي، طول حياته، كافياً الآخرين خيره وشرّه، الى ارتكاب تحرّك جنوني، قد يسبب له، ولعائلته الدمار والخراب؟» سؤال تجريدي طرحته مجلة متخصصة بالتحليل النفسي على ثلاثة أشخاص ينتمون الى أجيال مختلفة: الأول شاب جامعي في العشرين، والثاني مهندس ناجح في الأربعين، والثالث موظف حكومي ومتقاعد في الستين.
قال الشاب الجامعي: «عصرنا هو عصر الجنون، السياسي والاجتماعي والفكري. هناك طلاق تام بين أنظمة الحكم وجمهور الناس: أباطرة الحكم يكذبون ويضللون، وجماهير الناس تبتزّ وتتعهر، وهناك طلاق بين الكتّاب والقرّاء، المثقفون يتجوفون ويفرغون، والقرّاء يصفّقون وينافقون، وهناك طلاق آخر بين التقاليد الاجتماعية، وطموحات الأفراد، فكيف لا أغضب؟ كيف لا أثور؟ كيف لا أجنح؟ كيف لا أخرب، وأقذف كل شيء بالحجارة؟.
استدعاني والدي، ذات مرة، وقال لي غاضباً: »لماذا لا تواظب على جامعتك بانتظام -ألا تعرف أن مستقبلك مهدد، ما هذه الحماقة؟ قلت له بعدم اكتراث: «مستقبلي مهدد سواء أدرست بجدية أم لم أدرس. ما الذي سأفعله بعد التخرج؟ سأستجدي عملاً هامشياً في مؤسسة ما، لكنني أرفض أن أكون مسماراً في جهاز الكتروني معقّد...».
وجرى هذا الحوار بيني وبين أحد رجال الشرطة:
- لماذا اشتركت في هذه التظاهرة؟
- لأنني أريد أن أحتج على القسوة والظلم والإرهاق والبطالة!
- ولكن هذه الظواهر لن تزول بعد التظاهرة.
- أعرف هذا جيداً، لهذا اشتركت بها!
- لا أفهم ماذا تقصد؟
- إن ما يحبب إليّ التظاهرات هو شعوري أنها لن تبدّل شيئاً.
- وما الفائدة منها إذاً؟
- إنها صرخة غضب، رفض، تمرّد، جنون، ألا يكفي هذا؟.
-4-
وقال المهندس الناجح: «عشرون عاماً وأنا أعمل بلا كلال أو ملال، فماذا جنيت حتى الآن؟ اشتريت منزلاً متواضعاً، وسيارة أكثر تواضعاً، وأصبح عندي رصيد زهيد في البنك. لقد دفعت ثمن هذه الانجازات الصغيرة زهرة شبابي وصحتي، وأعصابي، بل كرامتي، بعض الأحيان. خانتني زوجتي لأنني- حسب زعمها- لم أوفر لها ماكانت تحلم به، وغادرتني مع شاب ثري طائش، ثم تهجم علي ابني، واتهمني بأنني أناني لاأفكر إلا بشخصي، وازدهاري، ولم يتورع عن سرقتي أكثر من مرة».
«لي جار عربيد، مستهتر، يعمل في السوق السوداء راكم ثروة فاحشة من عمله غير المشروع، وهو اليوم من أشهر نجوم المجتمع المخملي، تطارده النساء الجميلات من مكان إلى مكان، ولم يتوقف عن الصعود في الهرم الاجتماعي بعد عقده صفقة مشبوهة، لم تكلفه جهداً ولاوقتاً».
«منذ شهر تقريباً، قررت»أن أجن« ذهبت إلى بار مشبوه، وأنفقت ربع ما ادخرته من مال، وفي اليوم التالي ذهبت إلى بار آخر لايقل شبهة، وأنفقت ربعاً آخر من مدخراتي وتوالت سهراتي في البارات إلى أن أتيت على رصيدي في البنك. كنت أشعر بحاجة ماسة إلى ارتكاب حماقة، إلى الجنون، كل ما فعلته، وماجنيته لايعادل ماحصل عليه متلاعب في السوق السوداء في يوم أو يومين، سأخرج في أي تظاهرة، ودون أن أعرف شعاراتها ولا أغراضها، ولن اكترث إذا أصابتني طلقة نارية وفقدت عضواً من أعضائي..»
ـ5ـ
وقال الموظف الحكومي المتقاعد: هذا العالم الذي نعيش فيه عالم مجنون، مجنون. وكانت لنا قيم محددة تنظم حياتنا، تنمط علاقاتنا، وها قد تداعت هذه القيم، ودون ان يقوم مكانها أي بديل. كنا نؤمن بالوطنية، والنبل والصدق والتضحية والطهارة الأخلاقية. ماذا بقي لنا الآن؟ الوطنية هي في العمل على نهب خيرات الوطن، النبل هو في تفضيل المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، الصدق هو المخادعة المستمرة، والتضحية هي في إيذاء الآخرين، والترفع هو في الانغماس في الصغائر والتفاني في قبول الرشوة، كل شيء تفتت، واحتضر أمام أعيننا الشاخصة، ولكننا لانملك القدرة على التغيير ولا على التأقلم، ماذا نفعل؟.
«حاولت أن أقاوم هذا الانهيار، وبشيء من التماسك الداخلي، والمناعة الاخلاقية، لكنني اكتشفت أن المقاومة نوع من الحماقة غير المبررة، كيف أقاوم والخلل يتسرب إلى منزلي وعائلتي؟ هل تصدق؟ ابنتي تساكن رجلاً أكبر منها طمعاً في أن تؤمن الحصول على بعض المنافع الضرورية، وقالت لي دون خجل، وأنا أؤنبها: ماذا تريد مني أن أفعل؟ هذا الرجل يغطي كل نفقاتي، ولايتذمر، قد يمل مني، بعد فترة، وقد يتركني، ولكنني سأجد غيره!» أبكتني كلماتها ولكنني فشلت في اقناعها بالتخلي عن سلوكها المشين، ابني عضو في تنظيم مشاغب يناضل من أجل الاعتراف بالشذوذ الجنسي، وهو يرفض مناقشة هذا الموضوع معي، لأنني- حسب زعمه- «رجعي متزمت!» ومنذ شهر تقريباً ذهبت لزيارة أخي- وهو ميسور الحال وله ارتباطات بالمافيا- فصافحته بحرارة بعد أن كنت أقاطعه، وطلبت منه، وأنا مطأطئ الرأس، أن يساعدني فوقع لي شيكاً بمبلغ أذهلني، ونصحني أن«أحيا حياة طبيعية» وأن أجابه الأمور بشجاعة وأن أتخلى عن حماقاتي، «وبعد أن دسست الشيك في جيبي، شعرت بالخجل، ولكنني تجاوزت هذا الخجل حينما عانقتني زوجتي، وهي تقول لي:» لقد كبرت في عيني، الآن أصبحت رجلاً طبيعياً!« لاتسألني كيف أقضي أيامي، ولاكيف أهرب من مواجهة نفسي، أنا استنقع كل يوم في خمارة، أهذي وأروي بعض النكت المرذولة، ورواد الخمارة ينظرون إلي ويستمتعون :» مجنون لايتوقف عن شتم ذويه، والبكاء كالأطفال المذنبين«!
-6-
حينما يصاب الانسان العادي»بإنفلونزا الجنون« فإن أذاه يقتصر على نفسه، على دائرة ضيقة تحيط به، ولكن حينما يصاب القادة صناع القرار السياسي والاقتصادي بهذه»الإنفلونزا« فإن أذاهم يطول ملايين الناس ويتجاوز هذا الأذى حدود بلادهم ليشمل العالم بأسره، وإذا كان هؤلاء الأباطرة يتربعون على سدة الرئاسة في امبراطوريات عملاقة كالولايات المتحدة، تملك أسلحة الدمار الشامل، وتطمح إلى التحكم بالمصير الإنساني، فإن الكرة الأرضية تتحول إلى جحيم، وكما قال رقيب المارينز الأمريكي مؤلف كتاب» اقتل، اقتل، اقتل!«: »الرئيس«بوش» هو الذي جعل مني قاتلاً محترفاً، وحولني إلى بربري متعطش للدماء، ويشعر بالنشوة حينما يصوب رشاشه إلى مدنيين أبرياء..».
-7-
لم يكن المانشيت العملاق الذي التهم غلاف« لونوفيل اوبسرفاتور» الذي صدر هذا الاسبوع- عنواناً لفيلم بوليسي مرتقب.« العصيان الفرنسي إلى أين يمكن ان يصل!»، تساؤل سياسي جدي يطرحه الشعب الفرنسي في مواجهة الطبقة الحاكمة المؤلفة من رجال سياسة، واقتصاد، واجتماع، وإعلام، ومافيا.
والأزمة التي تعيشها أوروبا، وخاصة فرنسا التي عرفت بثوراتها المتعاقبة ليست أزمة مالية، وإنما هي «إفلاس أخلاقي» - كما يقول جاك جوليار - منظر اليسار الجديد. يكتب في افتتاحية نزقة: «الطبقة الحاكمة، من الكوادر المصادرة من الجامعات، إلى مديري الأعمال الموالين للحكم، من رؤساء البلدية إلى المدللين في المصارف، من حملة الأقلام المدفوعة الأجر مقدماً إلى مبتكري النكات السياسية الفاجرة، مصابون بخطايا سبع، أفرزتها الليبرالية المعولمة القائمة على أخلاقية الجشع والاحتيال».
أما الخطايا السبع التي يقترفها: «زبائن مقهي الفوكيتس الذين تحوقوا حول الرئيس (ساركوزي) يوم أعلن عن فوزه بانتخابات الرئاسة فهي: النرجسي الذي لايتستر ولايتبرقع بحجاب واق، ثم الكراهية السوداء التي تتحكم بعلاقات المتربعين في أعلى الهرم الحاكم، ثم العصبية العائلية التي توزع المناصب والمكافآت على الأولاد والأصهار، والأقارب، والمنافقين، ثم ممارسة الخيانة من دون عقد نفسية، بحيث يحق للمتنفذ «المدلل» أن يناقض نفسه باستمرار، أن يتخذ الموقف، ثم نقيضه من دون شعور بالاحراج، ثم للفساد المستشري في خلايا هذه الطبقة الحاكمة دون حدود ولاكوابح، ومما يدعو إلى الدهشة، أن ممارسة الفساد لاتعتبر نقيصة أو عاهة، وإنما هي موهبة، بل لعلها تكون ترفاً أخلاقياً، ثم التفاخر بالانحياز المطلق دون شعور بالذنب أو الخجل. وأخيراً التسلح بالعصمة أو رفض العقاب، على اعتبار أن العقاب يطول الدهماء، لا المتنفذين أصحاب الوجاهة والصولجان.
أما النتيجة التي أراد أن يوصلنا إليها (جاك جوليار) فهي أن هذه الخطايا السبع التي تعهِّر المجتمع الليبرالي، تحت شعار الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان هي أشد وبالاً من «إنفلونزا الخنازير»، وأنها تفتك بالمجتمع الغربي، خاصة بعد ظهور العولمة الفاضحة في النظام الليبرالي الذي كان هو الضمانة الأخلاقية للقيم الغربية، كما يكرر مثقفو اليمين الانتهازي دون كلال ولا ملال.
د. غسان رفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد