الثقــب
بدأت متاعب خليل وهو لا زال في رحم أمه في الشهر التاسع... ففي اليوم الأخير لوجوده في بطن أمه اختلفت الأم مع الأب، وتطور هذا الخلاف من الكلام إلى الضرب، وباعتبار أن الأب كان رياضياً وذا جسد ضخم وقوي فقد نالت الأم منه بعض اللكمات بالإضافة إلى ضربات قوية على بطنها كانت تصل إلى رأس خليل وهو داخل بطنها... وعندما كانت تُروى أمامه هذه الحادثة كان خليل يحس بارتجاج في دماغه وطنين في رأسه.
وبعد أن انتهت المعركة بانتصار الأب طبعاً، أتى وقت المصالحة.... ويظهر أن الأب كان مصراً على التكفير عن ضرباته للأم وللطفل أيضاً... فطارح الأم الفراش مراراً حتى صرخ خليل ونزل قبل أن تذهب الأم إلى المستشفى.
(تقول النكتة: إن أحد الأولاد عندما نزل من بطن أمه أخذ يصرخ: أين أبي؟ أين أبي؟ أريد أن أراه... وعندما أتى الأب وحمل طفله بين يديه، وضع الولد إصبعه في عين أبيه وصرخ قائلاً له: إذا أحدهم وضع إصبعه في عينك ألا تتوجع؟!!!)
وهذا يعني أن الأم كانت تصرخ من اللذة وكان خليل يصرخ من الألم...
وقد عرف خليل هذه النكتة فيما بعد من أبيه الذي كان يرددها على مسامع أمه ويضحكان... ثم ينظر الأب لخليل ويقول له: عندما نزلت من بطن أمك بكيت وحين حملتك بين يدي أتت إصبعك في عيني وخدشتها ولا يزال أثر هذا الخدش حتى اليوم... أنظر في عيني... وكان خليل ينظر في عين أبيه فيرى خطاً أحمر صغيراً في عينه.
* * *
لكن نتائج ما حدث في ذاك اليوم كانت أكبر من هذا الخط الصغير في عين الأب، فعلى ما يظهر أن شجار الأب مع الأم ثم مصالحتهما عملت ندوباً في دماغ خليل أخذ يعاني منها فيما بعد.
- 2 -
منذ السنة الثانية بدأت تظهر آثار هذه الندوب على تصرفات خليل، فبعد أن توقفت الأم عن إرضاعه ووضعته في سرير مستقل بعيداً عنها كان يحس باقتراب الأب منها بغرض مصالحتها فيبكي ويظل يبكي دون توقف حتى تضعه في السرير بينها وبين الأب، عند ذاك كان يعود إلى نومه بارتياح.
وظل ذلك يتكرر دون انقطاع لدرجة حملت الأب إلى وضعه عند جدته حين كان ينوي مصالحة الأم... وكان خليل يبكي مع ذلك حتى يتعب وينام ... وكانت جدته تقول له بعد ذلك: يا خبيث تريد أن تبقى وحيداً لأبويك كي تبقى المدلل عندهما، وعلى ما يظهر أنه فعلا منعهما من الإنجاب، وبقي الوحيد لهما ولكن غير المدلل على الإطلاق!
- 3 -
بدأت متاعب الأب من خليل تظهر في المدرسة منذ الصفوف الابتدائية الأولى.. فعندما كانت الآنسة تقول للتلاميذ في الدرس: بابا... ماما... يركض خليل مسرعاً باتجاه الباب ليذهب إلى البيت ويقف حائلاً بين أبيه وأمه، ولكن الآنسة تسارع إلى منعه من المغادرة وهي مستغربة تصرفه هي والأولاد في الصف.... وقد أبقته في الصف لوحده بعد ذلك ورددت: بابا ماما، وكرر خليل نفس التصرف، ولكنها منعته وسألته ماذا يفعلان؟ دفن خليل رأسه في حوضها وهو يحاول منع أي تسلل إلى هناك... أخذت الآنسة تضحك وقد فهمت الأمر، واستغلت ذلك لتدبر مقلباً مع المديرة المتزمتة حين دخلت الصف ووقفت بالباب، همست الآنسة بأذن خليل: بابا ماما...
ركض خليل نحو الباب وحين أكملت الآنسة ماذا يفعلان؟ دفن خليل رأسه في بطن المديرة ممسكاً بها بشدة... فوجئت المديرة بالحركة وحاولت الإفلات منه ولكنه لم يتركها وكان يتابع دفن رأسه في حوضها... وأخيراً استطاعت الإفلات منه والهرب إلى الإدارة بين ضحكات الآنسة والتلاميذ.
بعدها استدعت المديرة والدة خليل وطردته من المدرسة لأنه كما قالت قليل الأدب.
-4-
تطورت آثار الندوب في دماغ خليل مع انتقاله إلى المرحلة الإعدادية، إذ بدأت تختلط الأمور بالنسبة له... فلم يعد هناك تمييز بين الواقع والفعل، وبين الحلم والخيال...
مرة كان خليل في درس للتاريخ، وكان المدرس منهمكاً في شرح درسه ومنفعلاً في ذكر المعارك التي خاضها العرب حين تخيل خليل نفسه وهو يقف ويخرج من مقعده ويتجه إلى الأستاذ، فيسأله الأستاذ: هل تحمست أنت أيضاً لهذه المعارك التي خضناها وانتصرنا فيها؟ فيجيبه خليل: نعم لقد تحمست... فالتفت الأستاذ عنه إلى طلاب الصف وخاطبهم: أرأيتم لا يمكن للإنسان العربي الأصيل وهو يتذكر تاريخه إلا أن ينفعل.... وقد ازداد حماس الأستاذ وهو يخاطب الطلاب متقدماً منهم... تخيل خليل الأستاذ وهو ينحني نحو بعض التلاميذ موجها الحديث إليهم مما أدى إلى انحسار سترته إلى الأعلى وظهور خلفية بنطاله، وقد كان هناك ثقب في خياطته... تخيل خليل نفسه يتقدم من الأستاذ ويضع إصبعه في هذا الثقب.
ما كاد خليل يتخيل هذا حتى أتته صفعة قوية من كف الأستاذ، وحين تنبه من تخيلاته اكتشف أنها لم تكن خيالاً وإنما كانت واقعاً، واكتشف أن إصبعه قد دخلت في ثقب بنطال الأستاذ فعلاً.
وكانت نتيجتها عقاب شديد فعلا من الأستاذ والمدير في المدرسة.
* * *
في المرة الثانية وحين كان الأستاذ نفسه يكتب عناصر الدرس على اللوح.... قرر خليل أن ينتقم منه فنهض من مقعده متقدماً نحو الأستاذ ووضع إصبعه في ثقب بنطاله، التفت له الأستاذ منزعجاً وقد ظهر الغضب على وجهه وقال له: أتعيدها مرة ثانية؟ قال له خليل: نعم وسأعيدها مرة ثالثة ورابعة... والتفت إلى طلاب الصف ليراهم وقفوا وهم يصفقون له... فحياهم بيده والتفت إلى الأستاذ وهو ينظر له مبتسماً ابتسامة انتصار عليه فقد انتقم منه، وحين هم بالعودة إلى مقعده سمع صوت الأستاذ وهو يصرخ بغضب: خليل... التفت خليل إليه ليكتشف أن كل ما جرى كان خيالاً يدور في ذهنه وكان يظن أنه يحدث فعلاً، فهو كان لا يزال جالساً في مقعده، وقد تنبه الأستاذ إلى شروده عن الدرس وابتسامته وهو ينظر إليه، ظنه يسخر منه ومن ثقب بنطاله فصرخ به ثم عاقبه لعدم إصغائه للدرس.
-5-
تكرر مع خليل هذا الخلط بين الحلم والواقع، وكانت نتيجتها طرده من المدرسة.. وقد أخذه أبوه إلى طبيب نفسي بعد ذلك، وكان متردداً في أخذه كي لا يقال إن ابنه مجنون.... وبعد فحصه من قبل الطبيب، كانت النتيجة أنه إنسان طبيعي تماماً وتصرفاته التي كان يقوم بها تدل على أنه إنسان مرح ويحب المزاح وهذا ما يطلق عليه العوام ' الولدنة ' أو ' الشيطنة ' وعندما يكبر سيصبح عاقلاً ويبتعد عن مثل هذه التصرفات.
* * *
قرر الأب أن يكمل خليل دراسته حراً دون مدرسة ... فجلب له الكتب المدرسية والأساتذة إلى البيت.
* * *
وقد أخذ خليل الشهادة الإعدادية ثم الثانوية بسهولة ، وكان أكثر مايستهويه قراءة كتب التاريخ والقصص والروايات... وكان يعيش حياة الشخصيات وكأنها جزء من حياته؛ وكان دائماً يتذكر أستاذ التاريخ.
- - 6
بعد أن أخذ خليل الشهادة الثانوية، سعى أبوه بواسطته الكبيرة، فقد كان يتمتع بمنصب مهم في الدولة، إلى تعيينه في أحد المؤسسات التابعة له والتابعة للدولة.... عينه في مؤسسة للأعلاف الحيوانية... وقد أصر مديرها العام على أن يكون خليل حاجباً خاصاً عنده تكريماً لأبيه، ولكن الأهم لديه كان عندما عرف أنه على البركة كما تردد عنه.
* * *
مرة أتت فتاة جميلة أثناء الدوام وطلبت مقابلة المدير العام الذي سمح لها بالدخول عنده، وطلب من خليل أن يقف عند الباب ولا يتحرك عنه كي يمنع أي إنسان من الدخول إلى مكتبه أثناء اجتماعه بها.... قال له: إذا سأل أحد عني قل له إن لديه اجتماعاً هاماً من أجل المؤسسة، قال له خليل: حاضر، وأغلق الباب.
بعد قليل أتى رجل كبير في السن وبيده بعض الأضابير، وعندما رأى خليل واقفاً أمام الباب سلم عليه وسأله: أنت الحاجب الجديد للمدير العام؟ قال له: نعم أنا هو، قال: أهلا وسهلا، أبوك رجل طيب ويستحق كل الاحترام والتقدير، سلم لي عليه، والآن أريد أن أرى المدير العام. قال له خليل: لا أستطيع أن أسمح لك بالدخول فهو قد طلب مني ذلك...
قال الرجل: ولكن يا بني أنا نائبه.
قال له خليل: ولو، الأوامر هي الأوامر وتنطبق على الجميع.
انزعج نائب المدير من جوابه وهم بأن يشده من كتفه حين لمع الصداع في رأس خليل فوضع يديه على جبينه متوجعاً.... توقف نائب المدير عن حركته وهو يراقبه.... ازداد الألم والطنين في دماغ خليل وكان يأتي من داخل غرفة المدير العام، ولم يستطع مقاومته ففتح باب المدير العام واتجه إلى مكتبه متجاوزا الحاجز الخشبي ليرى الموظفة الجميلة وهي جالسة في حضن المدير العام نصف عارية...
فوجئ المدير برؤية خليل ونائبه، ولكنه لم يوجه لهما أية كلمة، فقد كان يشهق ويرتجف، بينما سترت الفتاة بيديها صدرها العاري.
كان نائب المدير خلف خليل وحين رأى ذلك شده من كتفه وأخرجه من الغرفة إلى خلف الباب وأغلقه ثم التفت له وقال: لم تقل لي إن لديه اجتماعاً هاماً ...على كل حين ينتهي من اجتماعه أخبرني، والتفت وغادر. بعد قليل خرجت البنت مسرعة، واستدعى المدير خليل.
قال له: يا بني ألم أقل لك إن لدي اجتماعاً هاماً
قال له خليل: بلى.
قال: إذن لماذا أدخلت نائبي؟
قال: لقد منعته في البداية ولكن حين أتى صوت الطنين إلى رأسي اعتقدت أنك تستدعيني فدخلت ودخل خلفي... ماذا كنت تفعل معها يا سيدي؟ نظر المدير العام إلى خليل ملياً، وعندما تأكد من براءة سؤاله انفجر ضاحكاً وقال له: كنت أعلفها.
نظر خليل إليه مندهشاً: تعلفها يا سيدي؟!
قال: ألسنا هنا في مؤسسة الأعلاف؟
قال له خليل: بلى يا سيدي...
قال: إذن كنت أؤدي واجبي كمدير عام... وضحك بصخب... ثم قال: والآن أرسل لي نائبي...
قال له خليل بعفوية: وهل تريد أن تعلفه يا سيدي؟
نظر المدير العام إليه ملياً وحين أدرك براءته قال له: لا يا بني، سأجتمع أنا وإياه من أجل علف الآخرين.
* * *
لا أحد يدري كيف شاعت الأخبار والأقوال في المؤسسة...
وكانت الأقوال والتعليقات تلاحق خليل أينما ذهب..
- متى سيأتي دورنا في العلف يا خليل؟
- قل لأبيك أن يعلف المدير العام فهو بحاجة إلى العلف قبل الآخرين
كان خليل يجاملهم ويضحك معهم..
- 7 -
بعد أيام التقى خليل بفتاة المدير العام التي استدعته إلى مكتبها، وكانت قد أصبحت نائبة ثانية لمدير المؤسسة.
قالت وهي تنظر له نظرة فاحصة: أنا أعرف من هو أبوك... وقد رأيتك وأنت تنظر إلي بإعجاب...
قال لها خليل: متى؟
قالت له: وأنا جالسة في حضن المدير العام.
قال لها: حين كان يعلفك.
ظهر الانزعاج على وجهها من تعبيره وصرخت باستنكار: ماذا تقول؟ أنت إذن خلف هذه الشائعات التي تدور في المؤسسة حول ترقيتي... أنت وقح وقليل الأدب، ولولا أن أبوك، وصمتت ورفعت يدها وصفعته!
* * *
كان خليل يخاف من أبيه ولم يقل له شيئاً مما حدث معه في المؤسسة، وحين كان أبوه يسأله عن عمله في المؤسسة كان يجيب بأنه مرتاح، وجميع الموظفين يحبونه ... وكان الأب يهز رأسه بأسف ثم يتنهد قائلاً: إياك أن تقوم بتصرف أحمق، ونفذ كل ما يقوله لك المدير.... وكان خليل يسارع إلى الانصراف وهو يهز رأسه موافقاً.
- 8 -
مرة أخذه المدير العام معه إلى محاضرة يلقيها الوزير في قاعة كبيرة ضمن مبنى الوزارة، أعطاه المدير العام حقيبته وطلب منه أن يقف عند الباب وينتظر إشارته.
بدأ الوزير بخطبته... وأخذ يزداد حماسة وانفعالاً مع تقدم خطبته... كان خليل يراه وهو يخطب وكأنه أستاذ التاريخ يتحدث عن خالد بن الوليد أو طارق بن زياد.... ثم أخذ يرى أستاذ التاريخ مكان الوزير... ازداد التشوش على خليل مع ازدياد صياح الوزير... وبدأ خليل يتخيل نفسه وقد مشى إلى صدر القاعة ووقف خلف الوزير الذي لم يتنبه له... ومد خليل يده باحثاً عن الثقب في بنطال الوزير...
فجأة ساد الصمت... وقطع الوزير خطابه، حينها انتبه خليل إلى أنه في الواقع فعلاً يضع إصبعه في خلفية بنطال الوزير باحثاً عن الثقب، رفع الوزير يده وصفع خليل.
والتهبت الأكف بالتصفيق الممزوج بالضحك... وصاح أحدهم: عاش الوزير... وردد الآخرون وهم يقفون... عاش... عاش!
ومع تكرار هذه الهتافات كان خليل محمولاً من قبل مرافقة الوزير ومرمياً خارج القاعة.
لحظتها أدرك خليل أنه أخطأ خطأً جسيماً لن يغتفره له أبوه.
- 9 -
كان لا بد أن يختفي خليل بعد تلك الحادثة... وقد اختفى فعلاً ولم يظهر له أي أثر!
كانت الإشاعات كثيرة حول اختفائه... منها من قالت إن فتاة المدير العام خلف ذلك.... ومنها من قال إن الوزير كان وراءها، ومنها من قال إن الأب كان خلفها.... ومنها من قال إنه وجد منتحرا.
علاء الدين كوكش *
المصدر: القدس العربي
* علاء الدين كوكش: مخرج تلفزيوني ومسرحي سوري، يكتب المسرحية والقصة والقصيرة، له مجموعة مسرحيات مطبوعة، ومجموعة قصصية بعنوان: (إنهم ينتظرون موتك)
إضافة تعليق جديد