غسان الرفاعي: الضحالة الثقافية مجدداً!
ـ 1 ـ كان روسو يقول: «حينما يهان الشعب، وتتعرض الحرية للأخطار، لابد من العصيان!».
ولم يتخلّ كبار الكتاب الفرنسيين عن هذا المبدأ، وجاهروا بعصيانهم أكثر من مرة: فولتير تعرض لمصاعب بسبب مواقفه الصارمة، أندريه جيد ثار على فظاعات بلاده في المغرب والجزائر، أندريه مارلو شارك في الحرب ضد الفاشية الفرانكية، سانت اكسبوري تمرد على أوامر قادته، فرانسوا مورياك ضحى بمناصبه التزاماً بمواقفه الوطنية، ولا ينسى الجميع سارتر وهو ينزل إلى الشوارع، ويوزع المناشير، وخلفه جمع غفير من الكتاب والشعراء والفنانين، كلما دعت الضرورة للدفاع عن القضايا العادلة.
لقد تعرضت فكرة الالتزام التي صاغها سارتر وجعلها مقياساً لأصالة المثقف لأزمات متتالية، بسبب تشابك الأحداث وتناقضاتها، وأصبح المثقف الملتزم والمرتبط بقضايا الجماهير مرغماً على تبديل جلده كيما يبقى متماسكاً فوق الشبهات، وطفت على السطح فكرة بديلة هي «الحرفية» بما تحمله من ترفع وهجانة. ومن هذا المنطلق يجب على المثقف أن يبتعد عن «حمامات الجماهير» وهتافاتها، وأن يحتبس في جامعته أو مركز بحوثه، صارفاً كل جهده زللبحث عن الحقيقةس بموضوعية وبرودة، إذ أصبح الارتباط بقضايا المجتمع العامة التي تعلو وتنخفض باستمرار «تعهراً ثقافياً» لقد بلغت الغطرسة بمفكر من وزن فرانسوا روفيل أن يكتب في تفاخر: «الغطس في حمامات الجماهير الحارقة معناه الجنون، فقدان الالتزام. لم أعد اكترث إذا كانت الجماهير راضية عني أو ساخطة علي!».
ـ 2 ـ
المأساة ـ كما يرى موريس ماشينو ـ أن السمة المميزة للمثقفين الفرنسيين الذين يطفون على السطح الآن هي الضحالة. إن الذين يتصدرون المنابر الإعلامية هم الانتهازيون الذين لا يتعدى رصيدهم بعض المقالات المنافقة، والتحليلات المبسطة المفجعة. يقول في تحقيق نشر في مجلة «لوموند ديبلوماتيك» الرصينة: «مثقفونا المعاصرون يشبهون علماء الكيمياء في القرن السادس عشر، يقدمون النحاس على أنه ذهب، والحديد الأبيض على أنه فضة! كان كتابنا الأقدمون مبدعين لايدينون بشهرتهم، ولابتفوقهم لأحد، وليس لهم من رأسمال يعتزون به إلا نتاجهم، أما اليوم فيكفي أن يقدم زالمفكرس برنامجاً تلفزيونياً ناجحاً، أو أن يعدّ ززاويةس ساخرة في الصحف والمجلات الرائجة، أو أن يعقد صفقة لتبادل الخدمات مع إحدى دور النشر، أو المنابر الإعلامية، ذات النفوذ، أو التحدث بلغة غامضة عن حقوق الإنسان في البوسنة مثلاً، أو أن يؤيد المواقف الإسرائيلية اليومية حتى يُكرس في الأدبيات الرائجة «مثقفاً نابهاً ولامعاً!».
وهناك مجموعة من الأفكار الفجة التي ينتظم حولها هؤلاء المثقفون الهابطون بالمظلات على المنابر السياسية والثقافية:
افتقار منطلقاتهم إلى الترابط والانسجام، ويبدو هذا جلياً في حماستهم للشرعية اليومية إذا طبقت في مكان، واعتراضهم على هذه الشرعية إذا ماطبقت في مكان آخر، يقول كلوغسمان في تفاصح مضحك: «نعم، عندنا مكيالان ومقياسان، ولكن أليس هذا دليلاً ساطعاً على حريتنا!».
استنفار مقزز ضد «اللاسامية» ومطاردة كل مثقف يجرؤ على النيل من سياسة إسرائيل في الصحف والمحاكم والمحافل، يقابله حقد عنصري على العرب، حضارة وحضوراً ومجتمعاً.
لقد احتشد عدد كبير من الكتاب في قاعة المحكمة التي كانت تحاكم الكاتب الروائي ميشيل هولبيك بتهمة تحقير الإسلام بزعامة فيليب سولير، وأخذت تهتف ضد حضارة القمع الإسلامية في حين أدانت محكمة أخرى الكاتب الكبير روجيه غارودي لأنه تجرأ وشكك في عدد اليهود الذين أرسلوا إلى المحرقة واتخذ قرار بمنع طبع ونشر كتبه.
الفظاظة في مهاجمة كل من لايقاسمهم وجهة نظرهم والاستنجاد بكل مخزون اللغة الفرنسية من كلمات البذاءة والسفه والتجريح والقذف، وعدم التورع عن التعرض للحياة الشخصية للأفراد ونبش ما فيها من تجاوزات.
ـ 3 ـ
المنظر الأكبر لهؤلاء المثقفين الجدد هو باسكال برونكر في كتابه الجديد «شقاء الازدهار» الذي يتصدر المجتمعات المخملية الباريسية، لا بفعل حججه الدامغة، وإنما بفضل كرم دار النشر، ويركز الكتاب ـ الفضيحة ـ على ثلاثة اكتشافات مخجلة:
أولاً: إن الغرب بحاجة إلى العالم الثالث لأن زبربريته ز تشعره بسمو حضارته، ولأن أمراضه تثبت عافيته. يقول في مقدمة كتابه: «شأننا في العالم الثالث شأن الرجل الذي يشعر باكتمال سعادته حينما يكتشف من هو أكثر شقاء منه!».
ويقول في مكان آخر: «العالم الثالث يذكرنا بما كناه منذ فترة ليست بالبعيدة. لقد حررنا الفرد من كوابيس النزاعات الإثنية والأيديولوجية والطائفية، ومازال هذا العالم يرتكب المجازر بسبب هذه الكوابيس!».
ثانياً، إن الغرب لايرى في إنسان العالم الثالث إلا نموذجين: الإرهابي الذي يثير الرعب، والعبد المطيع الذي يثير الشفقة، ولهذا يستحيل قيام حوار بنّاء بين الغرب والعالم الثالث. لقد تمكن الغرب عن طريق الاستعمار بشكليه القديم والحديث أن يعمق الشعور بالعبودية، ولكن عدوى الحرية والاستقلال حملت معها جرثومة الإرهاب. يكتب : «لاهوادة في الحرب على الإرهاب، ولاحوار مع حضارات غير غربية، إنهم بحاجة إلينا لحماية تخلفهم واستبدادهم...».
ثالثاً: إن الغرب بحاجة إلى ملاذ تهاجر إليه أفكاره السيئة، وكما تسعى البيوتات الاقتصادية إلى دفن نفاياتها النووية، في بلاد العالم الثالث فكذلك يسعى المثقفون الغربيون إلى دفن نفاياتهم الأيديولوجية خارج بلادهم. يقول في تفاصح: «لقد نضجنا، ولكننا لا نزال نحنّ إلى مراهقتنا، صدقوني، نحن نحسد ما يجري في العالم الثالث من صراعات ومجازر تماماً كما يحسد الشيخ المترهل مراهقاً نشيطاً!».
ـ 4 ـ
ولكنّ مثقفي العالم الثالث أقدر على تشخيص معاناتهم من متطفلي المثقفين الغربيين الذين يتفجرون عنصرية وكراهية، لا تزال ذاكرتنا مسكونة بأقوال أديبنا الراحل عبد الرحمن منيف الذي اختطف من فضائنا، كالتماعة البرق، تاركاً لنا، في ظروف مختومة، يأساً، وحنيناً، وبراعم حلم لم تتفتح، وذكريات مخضّبة بالدم، وهشيم آمال. هكذا شاء ـ كأحد أبطاله في «مدن الملح» أن يصفعنا برحيله، ليمتحن زقدرتنا على المقاومةس. أليس تاريخنا الحديث ـ كما كتب ـ لسع أسواط، وقرقعة كرابيج، ووخز دبابيس؟» فطوبى لمن يمضي قبل أوانه لأنهس يحرم نفسه من طوفان الدموع، وتفجيرات الدم ولانهائية الخرائب، وعجين الدنس...!.
كان هذا الفنان الأصيل مناضلاً سياسياً بالدرجة الأولى، وكان مهيأ لأن يكون في الخندق الأدبي من جبهات النضال، يخوض المعارك بنزاهة وشرف، ولئن اختار «خندق الرواية» بدءاً من «الشرق المتوسط» مروراً بـ «مدن الملح»، وانتهاء في «أرض السواد» فلأنه اكتشف أن رؤيته الواقع العربي، بعيون جريئة وصادقة قد تكون الطريق الأقوم لتغيير هذا الواقع وتجاوزه. ومن هنا فإن التسلل إلى النسيج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي لهذا الواقع، وعرضه بصدق وأمانة قد يكونان أكثر فائدة من طرح شعارات وتعبئة الرأي العام دون تعرية الجذور الحقيقية للتخلف والشعوذة السياسية.
ـ 5 ـ
كان رحمه الله، يكره التنظير، ويرى فيه «طاعوناً» يفتك بعقل المثقفين والسياسيين معاً، وكان يتحاشى الوقوع في فخ التنظير، على الرغم من كل المحرضات والمغريات، وقد يتفق أن يسترسل في تحليل ظاهرة بهدف التوضيح والتفسير، ولكنه كان يعتذر بسرعة، ويلوم نفسه على هذه «المغامرة».
وإنني لأذكر أنه استرسل، ذات مرة، في الحديث عن زالحداثةس التي هبطت علينا دون أن نكون مستعدين لها أتم الاستعداد، ولامستنا ملامسة سطحية ولكنها لم تتغلغل في تركيبتنا العقلية والاجتماعية. قال، على ما أذكر، في معرض حديثه عن الوحدة العربية والثورة الاجتماعية، والاشتراكية ما يمكن إجماله على النحو التالي:
لقد آمنا بالوحدة العربية، وسيرنا التظاهرات والمسيرات لتأييدها، وقام من بين صفوفنا من زعم أنه بسمارك، وخيل إلينا أن الوحدة أصبحت جاهزة، وما علينا إلا أن نقطفها، ثم قمنا باغتيال بسمارك، والتففنا حول دويلات الدكاكين، نحرق البخور أمام الذين نصبوا انفسهم سلاطين القدر، وتعصبنا للحدود المزورة التي رسمها الاستعمار، وها نحن نوزع شقف كل داعية للوحدة لنبارك دراويش الديمقراطية الهجينة.
ثم قمنا بثورة اجتماعية ضد الإقطاع، والوجاهة العائلية، وصفقنا لمن زعم أنه روبسبيير أتى ليخلصنا من قصر فرساي وسجن الباستيل، ولم يمض وقت قصير حتى تبين لنا أن روبسبيير انقلب إلى سمسار يعمل لمصلحة الإقطاع والرأسمالية، فقتلناه، وشيدنا قصور فرساي جديدة، وسجون باستيل جديدة، ومازلنا نوقع العقود لبناء قصور وسجون جديدة، لافي الوطن فقط، وانما في المهاجر، في مربايا، وكان، والكوت دازور.
ثم استبد بنا الجنون الاشتراكي، وخرج من بين صفوفنا لينين جديد، ليخلصنا من التسلط الرأسمالي والامبريالي، وفي ليلة ظلماء اغتلنا لينين ودحرجنا جثته في الشوارع، وحرقنا البخور أمام طبقة جديدة من النبلاء أشد فساداً من بطانة القيصر، وها نحن زنتأمركس ونعلن أن الديمقراطية المتأمركة هي الحل الأنسب، ولاندري إلى متى سيدوم هذا الافتنان بالنموذج الأميركي الذي يدعو إلى السخرية؟.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد