مضادات للكآبة
الجمل - سامي العباس: ينقل بعض المصنفين عن الفاضل الطيبي عن محمد بن محمد الطيالسي أنه قال:"صلى أحمد بن حنبل ,ويحيى بن معين ,و قد كان من أخص خواصه في مسجد الرصافة ببغداد فقام بين أيديهما قاصّ فقال :حدثنا أحمد بن حنبل ,ويحيى بن معين .قالا :حدثنا عبد الرزاق .قال :حدثنا معمّر عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله "ص":من قال :لا إله إلا الله ,يخلق من كل كلمة منها طائر منقاره من ذهب وريشه من مرجان –وأخذ في قصة طويلة - فجعل أحمد ينظر إلى يحيى ,ويحيى إلى أحمد .فقال :أنت حدثته بهذا ؟ قال :والله ما سمعت بهذا إلا هذه الساعة .فسكتا جميعا حتى فرغ .فقال يحيى :من حدثك بهذا ؟قال :أحمد بن حنبل ويحيى بن معين .فقال :أنا ابن معين ,وهذا ابن حنبل ما سمعنا بهذا قط في حديث رسول الله "ص" فإن كان ولا بد من الكذب فعلى غيرنا .فقال الرجل :لم أزل أسمع أن يحيى بن معين أحمق ,وقد تأكدت الساعة .كأنه ليس في هذه الدنيا يحيى بن معين وأحمد بن حنبل غيركما .كتبت عن سبعة عشر ابن حنبل غير هذا .قال فوضع بن حنبل كمه على وجهه,وقال دعه يقوم .فقام كالمستهزئ بهما " انتهى
يكشف النص فيما يكشفه عن رجل دين من وزن ابن حنبل يستطيع أن يضحك دون أن يخشى على "اللوك"الذي حبسته فيه وظيفته من أن يمسّه الضر..وبغض النظر عن مصداقية الحكاية لجهة حدوثها واقعيا . فما تفصح عنه أيضا أن مجتمعاتنا الإسلامية في عصر ابن حنبل لم تعدم وسيلة للتخفيف من ضغط ثقافة النقل على الحياة اليومية .. فالتشابه في الفهلوة بين على الزيبق والقاص الذي أغفلت الحكاية تسميته لأنه ظاهرة أكثر منه حالة فردية يحيل إلى أن كليهما كان ردا على جهازين للقمع استولدتهما دولة الغلبة الموصوفة بالإسلامية :شرطة السلطان وفقهائه ..المشترك بين الردين على تمايز موقعيهما :جبهة الشرطة/ جبهة الفقهاء ,هو السخرية..
جاء في الأغاني " سمعت أبا مالك يقول :أنشدني ابن مناذر قصيدته الدالية التي رثى فيها عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي فلما وصل إلى قوله :
يقدح الدهر في شماريخ ر ضوى ويحط الصخور من هبود
قلت له :أي شيء هو هبود ؟قال جبل .قلت :سخنت عينك ,هبود بئر باليمامة ماؤها مالح قد والله خريت فيه .ونهض أعرابي يقول: بل أكيمة في بلادنا ما تواري الخارئ ,فكيف تحط منها الصخور!! ..وبعد مدة وقفت عليه في مسجد بالبصرة وهو ينشدها فلما بلغ البيت إياه أنشده :ويحط الصخور من عبود .فقلت أي شي هو عبود ؟ قال جبل في الشام فلعلك يابن الزانية قد خريت عليه أيضا !!؟.." كانت الثقافة المتعالمة في العموم في خدمة دولة موضوعة في خدمة استراتيجيات هذه" الجديلة" أو تلك من العصبيات :القبلية/ المذهبية المسيطرة..لذلك هاجر الاعتراض إلى الثقافات الفرعية بلغاتها المهجنة, وعقد الدونية المنبثة في شعابها.لكونها لسان حال عصبيات خرجت مهزومة من المنافسة. السخرية العلنية أو المبطنة بقيت سلاح الضعيف في مواجهة القوي المسيطر . يداوي بها الضعيف رضوض النفس :الفردية والجمعية . أنظر على سبيل المثال هذا البيت الفواح برائحة الصراع بين العرب والموالي :
عاج الشقي على رسم يسائله وعجت أسأل عن خمارة البلد
لكأني بأبي نواس في هذا الكاركتر الشعري ,يرسم أمرؤ القيس معوِلاً على تركة الأهل المترحلين وراء الماء والكلأ:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
ترى بعر الأرآم في عرصاتها وقيعانها لكأنه حب فلفل
أي مكان أفضل من الخمارة للإمعان في التباين الديني والدنيوي؟ عن سياق شقته الحاجات المتبادلة للدولة والدين ..نحتفظ من أبي نواس بتجديده للشعر مبنى ومعنى, وننسى مناكفاته لأجهزة الضبط والربط :
جاء في الأغاني لأبي الفرج : لقي قاضي البصرة أبا نواس يكلم جارية في الشارع فقال له : اتقي الله .قال :إنها حرمتي . قال :فصنها عن هذا الموضع وانصرف عنه .فكتب إليه أبو نواس :
إن التي أبصرتها بكرا أكلمها رسول
أدت إلي رسالة كادت لها نفسي تسيل
من ساحر العينين يجذب خصره ردف ثقيل
فلو ان أذنك بيننا حتى تسمّع ما تقول
لرأيت ما استقبحت من أمري هو الأمر الجميل
فلما قرأها ضحك وقال :لا أتعرض للشعراء أبداً
على مدار التاريخ الإسلامي أنتجت مجتمعاتنا مضادات للكآبة .ولمعت في هذه الصناعة أسماء أوجعت بسخريتها أقفية ثقافة رسمية متعالمة , تفننت في إدارة ظهرها لحياة تستحق أن تعاش..
إضافة تعليق جديد