"إنجراحات السلوك والفكر في الذات العربية" لعلي زيعور
يشكل كتاب الدكتور علي زيعور "انجراحات السلوك والفكر في الذات العربية، في الصحة العقلية والبحث عن التكيف الخلاق" الصادر عن "المركز الثقافي العربي "، استكمالا لما بدأه من مشروع تحليل الذات العربية وإلقاء الضوء على معضلاتها المتعددة الجانب، من منظار علم النفس الشامل. خلافا للكثير من مدارس التحليل النفسي، العربية والعالمية، التي تشدد على احادية الجانب في قراءة الشخصية الانسانية وتحليلها نفسيا، يتناول زيعور الانسان العربي في شموليته وفي علاقته بالمجتمع من جميع جوانبه الاقتصادية والسياسية والثقافية والفكرية والدينية والاجتماعية، فيراها عناصر متضافرة، بل متكاملة في تحديد الشخصية العربية وتكوين ذاته وتعيين امراضه النفسية. من هنا تأتي قراءته النفسية بوصفها انعكاسا لهذه العوامل المجتمعة، مما يجعل تحليلاته واستخلاصاته العلاجية بمثابة اجوبة تمس المشروع الحضاري العربي في مجمله.
في عالم معاصر تفرض فيه التطورات المتسارعة التفاعل معها من دون ان تكون للإنسان قدرة السيطرة على تفاعلاتها البنيوية على ذاته، كانت الابحاث النفسية الهادفة الى الدخول الى اعماق الانسان، واحدا من الاجوبة المساعدة. لذا انصبت هذه الابحاث على كشف اغوار المخيال والجسد والرموز لتصل الى جميع ابعاد الحياة، وقد توسعت لتطاول مسائل المعرفة والعلم والتطورات التكنولوجية. على رغم ان علم النفس شهد في ابحاثه التطبيقية قفزات هائلة في التطور والتقدم في المجتمعات الغربية وبات حاجة للمواطن من دون حرج، الا ان العالم العربي لا يزال يتعاطى مع هذا العلم بتحفظ، إن لم يكن بعداء، ويرفض اخضاع ما يعانيه الانسان العربي من تمزق وقلق واضطراب للتحليل، خوفا من "تحطيم" ما يدعيه من خصوصيات مصبوغة بنرجسية وادعاءات غالبا ما تكون فارغة. يحاول علي زيعور، في كتابه هذا، ان يخترق هذا الحجاب ويكسر الكثير من التقاليد والتابوهات المفروضة على الشخصية العربية، عبر تشريحها من مداخل متعددة تؤثر فيها.
يولي زيعور اهمية كبيرة للعامل الثقافي وللبنية الثقافية التي تتحكم بالعقلية العربية، ماضيا وحاضرا، فيكشف ما تتركه من آثار على سلوك الانسان العربي، سلبا وايجابا. لا يزال الانسان العربي، والعاملون في الثقافة والسياسة بشكل عام، اسرى النظرة النرجسية التي تقرأ الحاضر الثقافي العربي من منظار الفترة الذهبية التي عرفتها المجتمعات العربية والاسلامية في القرون الوسطى، وتشكلت خلالها الحضارة العربية الاسلامية التي تركت اثرا كبيرا على النهضة الاوروبية لاحقا. تتسبب هذه الاقامة العربية في الماضي في العجز عن اللحاق بالحاضر بكل ما يعنيه من تقدم وتطور وتجاوز للموروثات، وهو عجز يتمظهر لدى الانسان العربي في عقد نقص تجاه الغرب، فتتحول النظرة موقفا عدائيا، وتتجلى في مسلك يتسم بكل مظاهر الانجراح السلوكي. صحيح ان المجتمعات العربية تحمل في جوفها آثارا سلبية من فترة الاستعمار الغربي وما تسبب لها من قهر واذلال، لكن الشعوب العربية لم تكن الوحيدة في هذا المجال. كثير من المجتمعات تجاوزت هذه المرحلة وسعت الى الافادة من إنجازات الغرب. يعيد زيعور بحث احد اسباب تجاوز العربي لعقدة الفترة الاستعمارية الى هذه "النرجسية العربية" التي تشكل حاجزا فكريا ونفسيا تمنع الذات العربية من رؤية نفسها على حقيقتها، وتضع عقبات وهمية تمتنع بموجبها عن اقامة علاقة مركبة مع الغرب، تحافظ فيها على استقلاليتها الوطنية من جهة، وتنهمك في الان نفسه في النهل من حضارات الغرب وافكاره من جهة اخرى، بما يجعل المجتمعات العربية على صلة بالعصر وتطوراته التقنية والعلمية والفكرية والثقافية.
يكاد زيعور لا يترك جانبا من جوانب "الامراض النفسية" الا ويخضعها لمبضع التشريح. يحدد السمة العامة لهذه الشخصية بهيمنة عناصر الاحباط والقلق والتمزق الداخلي والانفصام والارتباك، وكلها عوامل لا تساعد الانسان العربي في بناء مجتمع متقدم. يشكل التعصب للمذهب والعقيدة، سواء اكان دينيا ام ايديولوجيا، إحدى المعضلات التي تبدو اليوم مستعصية. فالحركات الاصولية الدينية، وخصوصاً في جانبها الاسلامي، تخترق المجتمعات العربية اليوم، وتسعى الى فرض ايديولوجيتها الاحادية الجانب والرافضة للآخر على الثقافة والسياسة والاجتماع. وهي تحمل فكرا استئصاليا زاخرا بالموروثات والرمزيات، بعيدا من العقلانية، مشحونا بالكره والحقد ضد المختلف معه، يستسهل اطلاق تهم التكفير والزندقة والارتداد عن الدين في وجه من يخالفه الرأي، بكل ما يعنيه ذلك من سهولة في إهدار دم المخالف هذا. تتجلى في هذا الانسان اعراض امراض نفسية متعددة ليس اقلها تلك الصفات المشار اليها.
في المقابل، لا تزال المجتمعات العربية اسيرة ايديولوجيات، اشتراكية او قومية عربية، تحمل في صلب افكارها عقلية اقصائية واستئصالية ايضا، ترى في نفسها امتلاك الحقيقة واحتكارها على غرار الايديولوجيات الدينية، وهي ايديولوجيات تؤثر في الذات العربية لجهة كيفية التعاطي مع الاخر العربي، ومع الاخر الاجنبي. لا يقل التعصب لهذه الايديولجيات خطرا على النفسية العربية مما تثيره الاصوليات الدينية في هذه المجال، وخصوصاً لجهة رفض الاخر وعدم الاعتراف بموقعه شريكا، او في الاستئثار بالسلطة عندما يتسنى لها ذلك، وممارسة الاستبداد والقهر، او قولبة العقلية ضمن قوالب ذهنية تنتج توترا ذاتيا واضطرابا في الشخصية وقلقا ونرجسية وادعاء. يترجم هذا الواقع نفسه عربيا من خلال التخبط في تكريس الصراع بين افكارها وتوجهاتها، وتغييب عناصر التخلف العربي الحقيقي ورفض الاعتراف بمعوقات الذات العربية وتعيين اسبابها الموضوعية، وذلك عبر استحضار عدو دائم لها.
لا يستقيم تعيين عوامل انجراحات السلوك والفكر في الذات العربية من دون ابراز الدور المهم للبنى الاجتماعية القائمة في العالم العربي، وهي بنى تقوم على العلاقات العصبية العشائرية والقبلية والطائفية والعائلية، وتسعى لابقاء الانسان العربي اسير ثقافتها المنغلقة وعاداتها وتقاليدها غير المتوافقة مع تطورات العصر. ان عودة الانسان العربي الى التقوقع ضمن "الخاص" التقليدي هي اقصر الطرق لتوليد التمزق الداخلي، وتقليص حريته الذاتية وامكان تفتحه الفكري خارج اسار التقاليد والافكار المفروضة من مجتمعه الضيق.
تفتح الفكرة السابقة على مسألة التطور الحضاري الذي يشهده العالم منذ عقود ويجد ترجمته في اختراق المجتمعات ويلغي المسافات بين الشعوب، وهو تطور اتى في سياق الثورة التكنولوجية خصوصا منها ثورة الاتصالات التي حولت العالم "قرية صغيرة". نجم عن هذا التطور اختراق اساليب حياة جديدة في مجتمعات لم تألف مثيلها من قبل، وادخلت عادات استهلاكية وحاجات جديدة. زلزلت هذه الحاجات وضرورة الحصول عليها قطاعات واسعة من الشباب العربي وحتى من كباره، وادخلت عناصر جديدة من التأزم والقلق الناجمين عن التناقض بين الموروث التقليدي والجديد المكتسح العقول والنفوس وصعوبات الحصول على حاجاته احيانا، مما ولد مزيدا من انفصام الشخصية في عالمنا العربي، لا يزال يجد تجلياته في اكثر من مظهر من مظاهر الحياة الخاصة والعامة.
لا تكتمل قراءة الانجراحات العربية من دون التوقف عند ما تعانيه المرأة العربية على هذا الصعيد. ليس مبالغة القول ان الكثير من العقد النفسية والامراض الذاتية وتكلس العادات والتقاليد وتخلفها، تجد ترجمتها العربية عبر اسقاطها على المرأة التي عليها ان تتحمل نتائج التخلف العربي وافرازاته العصبية والمرضية. تتدخل الثقافة التقليدية السائدة التي تحمل في جوفها انتقاصا من حقوق المرأة وموقعها المساوي للرجل، في توليد وضع يكاد ان يعيد المرأة الى موقع عبودي وان يفرض عليها موقعا دونيا. يساعد في تكريس هذه الدونية بعض النصوص الدينية التي صدرت في مرحلة تاريخية معينة وكانت متصلة بثقافة ذلك الزمان، لكن فقهاءنا جعلوها نصوصا مقدسة تنطبق على كل زمان ومكان، وبنوا عليها ثقافة تكرس التمييز بين الرجل والمرأة.
قد تكون قضية الحرية تشكل بيت القصيد في مشروع على زيعور وأطروحاته، الحرية في غيابها وتغييبها، والحرية في ضرورة الوصول اليها. يمثل غياب الحرية معضلة المعضلات في منع التفتح العربي وتحقيق الذات العربية المستقلة البعيدة عن العقد التي يتسبب بها الواقع، الحرية التي تمنع القهر المادي والنفسي الناجم عن استبداد الانظمة الحاكمة واستبداد الايديولوجيات الاقصائية المتحكمة في العقلية العربية. في غياب الحرية انتعاش وتصعيد للازمات النفسية، وفي تحقيقها العلاج من هذه الامراض.
يمكن اختصار ما يريد زيعور قوله، ان الخلاص يقوم في التحولات الشاملة في هذه المجتمعات العربية، نحو اعتماد الديموقراطية سبيلا في معالجة الازمات، وثقافة تقبل الآخر وتتعايش معه بصرف النظر عن الاختلاف. انه حلم الاحلام للشعوب العربية.
خالد غزال
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد