ج. د. سالنجر الذي كره الصور والأغلفة الملونة
كنّا أشرنا يوم السبت الماضي إلى غياب الكاتب الأميركي ج. د. سالنجر، عن عمر 91 سنة، في منزله في «نيو هامشاير»، وفق ما أشار إليه وكيله الأدبي. هنا مقالة، معدة عن الصحف التي تناولت الخبر، تستعيد سيرة هذا الكاتب الذي لا يزال منذ الستينيات يشكل حالة خاصة في سياق الأدبين الأميركي والعالمي.
منذ الخمسينيات، وفي ما بعد الستينيات، تحول الكاتب الأميركي ج. د. سالنجر (جيروم ديفيد سالنجر) إلى «صنم معبود»، حتى ولو كانت هذه العلاقة من طرف واحد، أيّ من طرف قرائه الذين جعلوا منه أيقونة حديثة. علاقة مبنية على الحنان والعاطفة والثقة التي لا يحدها حدّ. إذ أن الشخصيات الروائية التي أبدعها سالنجر في كتبه، شكلت على مدى أجيال وعقود، (وبالنسبة إلى هؤلاء القراء) شخصيات حيّة من لحم ودم، واقعية، أصبحت أصدقاء وتوائم للروح. أما سالنجر، ومن جهته، فرفض بشكل قاطع ودائم أي حوار مع الصحافة أو مع هؤلاء الذين قرأوه، لدرجة أنه منع وكيله وأفراد عائلته من أن يعطوه البريد الذي كان يرسل إليه، إذ في جميع الأحوال لن يفض أيّ رسالة ولن يقرأها في جميع الأحوال. من هنا كانت الرسائل تعود إلى أصحابها وعليها عبارة تفيد أن العنوان خاطئ أو أن المعني لا يقيم في هذا المكان. وبالرغم من ذلك، استمر القراء بإرسال كلماتهم، معتقدين أنه الوحيد الذي سيفهمهم.
سيرة
ولد سالنجر في الأول من كانون الثاني من العام 1919 في نيويورك، وأمضى طفولته في الشمال الشرقي من مانهاتن، التي كانت تشكل حي البورجوازية اليهودية الصغيرة، قبل أن تنتقل عائلته إلى «بارك أفينيو». بالتأكيد يشكل البارك أفينيو عنوانا أكثر أناقة، لكنه يشير في الوقت عينه إلى عدد من الاختصاصات التي تميزت بها هذه المنطقة: كان والداه يعملان في تجارة المأكولات، وقد وصلا إلى مستوى معين من النجاح الاجتماعي، وهذا أمر نادر الحصول وبخاصة في تلك السنوات السوداء التي عرفت باسم الانهيار الكبير.
في تلك الفترة، تردد على عدد من المدارس الواقعة في «أوبر وست سايد» قبل أن يدخل في شهر أيلول من العام 1934 (وهو في الخامسة عشرة من عمره) إلى الأكاديمية العسكرية في «فالي فورج»، وربما هي المدرسة التي دخل إليها هولدن كولفيلد بطل روايته الشهيرة «الحارس في حقل الشوفان».
في الشهادات التي كتبت عنه في تلك الفترة نجد أن سالنجر كان يعشق الكوميديا وكتابة مقالات وأقاصيص نشرها في جريدة المدرسة. بيد أنه كان طالبا متوسط الاجتهاد، ومع ذلك فقد نجح في الحصول على شهادته النهائية لينتسب العام 1936 إلى جامعة نيويورك التي غادرها بعد أن قضى فيها عاما واحدا. إزاء ذلك، أرسله والداه إلى أوروبا كي يحسن دراسته في اللغات كما ليدرس التجارة (وبخاصة تجارة الخنازير). أقام بداية في فيينا، زار باريس ولندن وتابع فترة تدريبية في بولندا حيث تعلم هناك كيفية ذبح الخنازير. إلا أن هذه التجربة أصابته بالاشمئزاز ليرفض نهائيا أن يتابع عمل العائلة في ما بعد.
بعد عودته إلى الولايات المتحدة العام 1938، استعاد الدراسة ليبدأ بنشر أقاصيصه في المجلات الأدبية. حيث بدأ اسمه بالتداول في الأوساط الأدبية، كما بدأ هو نفسه بالتردد إلى منطقة «غروينتش فيلج»، التي شكلت «ملجأه ومخبأه» في ما بعد.
التحق سالنجر بالجندية في أيلول 1942، فتم إرساله إلى إنكلترا حيث التحق بالفيلق الثاني عشر للجيش الرابع (سلاح المدفعية)، ومن ثم كان مع الذين دخلوا إلى باريس لتحريرها، حيث سنحت له الفرصة بأن يلتقي بإرنست همنغواي، في فندق الريتز. كان لهذه التجربة، الأثر العميق في تشكله الثاني، إذ وسمته إلى الأبد، وما الأقاصيص التي كتبها عن الحرب إلا خير دليل على ذلك. تجربة خرج منها بيأس كبير، فغادر الجيش في نهاية العام 1945، وكان خلال ذلك قد تزوج من فتاة فرنسية طلقها بعد أشهر قليلة.
بعد عودته إلى نيويورك، استعاد عاداته في التردد إلى «غرينويتش فيلج» ليظهر همّه الكبير في الحفاظ على ما أسماه «الاستقامة» الأدبية. استقامة، قادته لاحقا إلى الحد الأقصى: عدم نشر أي شيء. إذ لم يكن يحتمل أي تغيير في النصوص التي كان يرسلها إلى المجلات الأدبية، مثلما عارض فكرة الرسوم التي كانت تنشر معها إذ يجد أنها تلبس الأدب رداء ليس له. ومع ذلك، نشر في العام 1948 ثلاث قصص في المجلة الوحيدة التي كان يحترمها «النيويوركر» (لأنها الوحيدة التي تحترم الكتاب)، وهي ثلاث من أشهر قصصه: «اليوم المرتجى لسمك الموز» و«العم المخلع من كونكتيكت» و«بالضبط قبل الحرب مع الإسكيمو». وقد تحولت القصة الثانية إلى سيناريو سينمائي، إلا أن سالنجر وجد أن هوليوود خانته وأذلته عبر هذا الفيلم. من هنا، ربما، نجد هولدن كولفيلد، بطل رواية «الحارس...) وهو يتحدث عن شقيقه الأكبر د. ب. الذي كان كاتبا حقيقيا، في حقبة معينة، لكنه منذ ذلك الوقت ذهب «للدعارة في هوليوود».
منذ تلك الحادثة، حادثة الفيلم، بدأ سالنجر يفكر بكتابه العماد «الحارس...»، وقد أنهى العمل في المخطوط العام 1950. ليبدأ بعدها معركته الأولى مع الناشرين، إذ رفض أي تعديل في المخطوط، مثلما رفض أن ترسل نسخ إلى الصحافيين أو أن تتم الدعاية للكتاب، مثلما لم يكن يرغب أن تظهر صورته على الغلاف الأخير. لكنه لم يستطع شيئا حيال ذلك، ولم يحقق سوى أمر واحد: عدم نشر صورته.
«الحارس في حقل الشوفان»
صدرت رواية «الحارس في حقل الشوفان» في شهر تموز من العام 1951، لتعرف نجاحا ساحقا وآنيا. نجاح لم يتوقف عن الازدياد بدءا من الستينيات إذ أصبح الكتاب الرمز لأجيال كثيرة، وما زال يشكل ذلك لغاية اليوم، إذ أنها تباع بمعدل 250 ألف نسخة سنويا، بينما يقول الناشر الفرنسي لافون، إن الكتاب لا يزال يباع في ترجمته الفرنسية (على الرغم من أنها ترجمة قد شاخت مع مرور الزمن)، بمعدل 10 آلاف نسخة سنويا. بعد صدور الرواية، انتقل سالنجر للعيش في نيويورك، قبل أن يكتشف المكان الذي شكل بالنسبة إليه مكان عزلته: بيت صغير في «كورنيش» (الفيرمونت)، حيث انتقل إليه يوم عيد مولده الرابع والثلاثين، في الأول من كانون الثاني 1953، حيث بدأ بالاختفاء والغياب عن الأنظار، على الرغم من أنه تقبل فكرة صدور مجموعة قصصية جديدة له تضم 9 أقاصيص، صدرت العام 1953، ولتعرف بدورها نجاحا ساحقا.
لم يخف سالنجر رغبته في تلك الحقبة في الزواج وإنجاب الأطفال. اقترن بكلير دوغلاس في السابع من شباط من العام 1955، فأنجب مارغريت – آن في شهر كانون الأول من العام عينه، من ثم ماثيو العام 1960. واستمر في الوقت نفسه برسم أفراد عائلة غلاس، عبر أقاصيصه المتنوعة التي نشرها في «النيويوركر».
بيد أن الصدف تعود لتلعب دورها في إثارة سالنجر، إذ صدرت مجموعة من أقاصيصه في انكلترا في كتاب ذي غلاف «مغر» وذي «تزاويق»، لكنه أمر لم يحتمله سالنجر، ليعلن، من تلك اللحظة، متطلباته الأكثر حدة: مراقبة جميع عمليات صناعة كتبه مانعا بشكل خاص الأغلفة الملونة، كما الملخصات عن سيرته الذاتية إن لم يكن هو كاتبها، مثلما اشترط عدم وضع أي مقتطفات نقدية، بما فيها الترجمات إلى لغات أخرى.
في العام 1961، نشر سالنجر كتاب «فاني وزوي»، لتتصدر رأسا قائمة الكتب الأكثر مبيعا: 125 ألف نسخة في أقل من أسبوعين. لقد كسب المعركة، إذ أن الإعلان عن الكتاب لا يتضمن سوى اسمه وعنوان الكتاب، كما أن الغلاف على اقتصاد لوني كبير: العنوان بالأسود على خلفية بيضاء. وبعد سنتين، نشر كتابا جاء بمثابة تكملة لكتابه الأسبق بعنوان «أيها النجارون ارفعوا العارضة عاليا» متبوعا بـ«سيممور، توطئة». وهذا هو كل شيء، ما عدا «هابوورث 16، 1924» وهي قصة طويلة صدرت في مجلة «النيويوركر» في عدد حزيران 1965، ومذ ذاك لم ينشر أي شيء، حتى أنه أعاد إلى ناشره العام 1970، المبلغ المقدم الذي كان قبضه من أجل كتاب جديد. وخلال ذلك انفصل عن زوجته العام 1967.
عديدون هم الذين حاولوا التطفل على عزلة سالنجر – وعلى اختلاف أهدافهم وطرقهم في القيام بذلك – إلا أنهم كانوا يصطدمون في كل مرة بموقف الكاتب، إذ ما أن يشعر سالنجر بأنهم قد يذهبون إلى بعيد، حتى يطلب من محاميه أن يوقف أي محاولة في سبيل إجهاضها.
ارتبط سالنجر في العام 1972 بعلاقة مع جويس مينارد، التي أصبحت في ما بعد روائية، لتنشر حكايتها معه العام 1999 في كتاب بعنوان «في بيت خارج العالم»، ولتبيع مراسلاتها مع سالنجر مقابل 156 ألف دولار في مزاد عند «سوثبي» إلا أن الشاري سرعان ما أعاد الرسائل إلى الكاتب. بدورها، نشرت ابنته كتاب مذكرات عن والدها بعنوان «صائد الأحلام»، لكنها لم تقدم فيها الشيء الكثير عدا عن كونه أصبح يهتم بالتجارب الروحانية والغريبة، وبأنه عانى كثيرا من المعاداة للسامية في شبابه. لكن ماذا يقدم ذلك كله؟ منذ عقود لم تعد هناك أخبار جديدة عن سالنجر، سوى أنه رحل، ما يؤكد أنه كان كاتبا موجودا في الحقيقة ولم يكن اختراع دار نشر.
لكن وبعيدا عن ذلك كله، ثمة سؤال لا بد أن يطرح نفسه: هل – وعلى الرغم من عزلته طيلة هذه السنين – استمر سالنجر في الكتابة؟ وإن كان قد فعل، هل احتفظ بالمخطوطات أم أتلف آلاف الصفحات التي كتبها مثلما يقال؟ ثمة «إشاعة» انتشرت منذ عشر سنوات تقريبا وتفيد ان هناك صندوقا كبيرا في منزل الكاتب مليئا بالمخطوطات كما بالملاحظات وبالروائع المخفية. والسؤال الآخر: هل هناك صندوق بالأصل؟ هذه الإشاعة بطلها جار لسالنجر الذي صرح العام 1999 بأن الكاتب نفسه هو من أسر له بأنه كتب على الأقل 15 كتابا منذ انعزاله بعيدا، وبأنها كتب لم تنشر بعد. متى تنشر؟ يقال إن سالنجر قد أوصى «ليس قبل خمسين سنة!!!».
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد