فيلم «مرة أخرى» يسترجع الماضي بقصيدة حب دافئة
افتتح العرض الجماهيري للفيلم السوري (مرة أخرى) في سينما الشام مساء الخميس الماضي.
الفيلم في موضوعه وأسلوب إخراجه يغرد خارج سرب بعض الأفلام السورية لكونه يتطرق لموضوع إشكالي – سياسي بصيغة غير مباشرة يضع اليد من خلالها على الجراح التي خلقتها الحرب الأهلية اللبنانية وتأثر الشعبان اللبناني والسوري بها..
ففي المشهد الاستهلالي المحدد التاريخ 1976 نرى دخول الجيش السوري الى لبنان ومن ثم ننتقل بمشاهد متداخلة بين زمنين السبعينيات والنصف الأول من العقد الأول من الألفية الثالثة.. في الربع ساعة الأولى من الفيلم ثمة تشتت يصيبنا بفعل المونتاج السريع للمشاهد المتداخلة حيث تضيع القصة وخيوطها بين المشاهد العسكرية في الثكنة وبين مشاهد «مجد» الشاب الغريب الأطوار المعاصرة المهووس بالكمبيوتر وبالنساء.. البوهيمي المدجج بالسلطة وأبهتها كابن مسؤول كبير سابق.. في حين تنقل لنا كاميرا جود سعيد المخرج تفاصيل شخصية الضابط «أبو مجد القاسي» الذي يبدو كأنه بلا عواطف رغم تأكيده لزميله الضابط «أبو لؤي» أن السلطة تعني الرأفة بالبشر...
هذا الفرش العشوائي المقصود لشخصيات الفيلم في بدايته والغموض الذي يلف قصته سرعان ما يبدأ بالتكشف والوضوح لنعيد تركيب القصة والأحداث تسلسلياً من خلال مشهد مفتاحي هو اغتيال زوجة «أبو المجد» وهي في طريقها الى لبنان من خلال قناص كان هدفه الضابط «أبو المجد»، تموت الزوجة ويعيش مجد الطفل الصغير في لبنان مع والده ضمن دائرة الحرب وأصوات الرصاص.
في المشاهد التالية ثمة دلالات توحي بشرخ كبير يصيب العلاقة المتواشجة بين أشخاص الفيلم فأبو المجد يأمر عمران الضابط الصغير بالبحث عن القناص وجلبه ولو من تحت الأرض مهما كان الثمن، لا يتأخر عمران في تنفيذ المهمة حيث نراه يزف للمعلم خبر انجاز المهمة... المنعطف الآخر في مسار الفيلم إصابة الطفل مجد برأسه بطلق ناري عندما كان يلعب في بارودة روسية وهو في سيارة (الرانج روفر) فيبقى مجد في غيبوبة عدة سنوات في مشفى للراهبات في لبنان، عند إصابة مجد يقدم أبو سعيد المساعد المخلص لأبي مجد المسدس ليقتله كونه أهمل مجداً وهو في السيارة يدفعه المعلم عنه بقسوة ويدخل المشفى لرؤية ابنه ويأمر «أبو سعيد»: (لا تورجيني وجهك قبل استيقاظ مجد).
إصابة الابن تفسر لنا ما سنراه لاحقاً من سلوك غريب للابن الذي فقد أمه صغيراً وتعرضه للإصابة برأسه وهو يافع..
إن الابن هو نتاج ظروف غير عادية (الحرب) التي ترخي بثقلها على العلاقات والناس فتخلق تشوهاً وقسوة وخوفاً من الآخر، فمجد يرث القسوة من والده واليباس الروحي من معايشته الحرب، فيغرم بألعاب الكمبيوتر القاسية والقتل والدمار وعدم الرحمة فاللعبة الحربية هي رمز وإيحاء لرغبات الشاب المحروم من الحنان والتنشئة الطبيعية...
على مستوى آخر ننتقل الى زمن ما بعد الحرب من خلال شخصية جويس الشابة اللبنانية الأرملة التي تأتي الى سورية للعمل كمديرة لفرع احد البنوك الخاصة في المزة..
في البداية نراها متوجسة من الناس ولديها رهبة من الاختلاط وهذا ما تعبر عنه من خلال أحاديثها مع أختها ومع ابنتها الصغيرة عبر الهاتف أو المحادثة الالكترونية لكن ومع مرور الزمن ستتغير نظرتها لدمشق ولناسها الطيبين... أيضاً نظرة جويس هي نتيجة طبيعية لظروف الحرب والشروخ التي تخلقها في العلاقات بين شعبين...
تلتقي جويس بمجد رئيس قسم المعلوماتية في فرع البنك، في البداية نرى تشنجاً في العلاقة بين الاثنين لكن تتحول لعلاقة حب فيما بعد... يعترض عليها أبو لؤي صديق والد مجد الثري ذي النفوذ والسلطة الذي تبنى مجد (حيث لا أولاد له) وأرسله للدراسة في بريطانيا بعد وفاة والده في لبنان.. فيحذره من العلاقة الجدية مع جويس اللبنانية الأرملة!
لكن العاطفة الجياشة التي أحس بها مجداً تجاه جويس كانت أقوى من تركة الماضي الثقيلة وحروبها، إنها عود على بدء.. فالعلاقات التي حكمتها القناصات في الزمن الماضي تعود لتعدل مسارها في نمط جديد حيث للروح فيه الكلمة الفصل.. لكن هذا المسار لا يصل الى نهايته، فخطيبة مجد كندة المجروحة الكرامة من تخلي الخطيب عنها تأبى إلا الزج بماضي مجد في علاقته الجديدة ليعود الشرخ والجفاء، فكندة تعطي لجويس الأقراص التي تحوي تسجيلات مكالمات جويس مع أهلها والتي سجلها مجد عبر التجسس عليها إضافة لإخبارها بماضي أهل مجد ووالده الضابط في لبنان...
ومرة أخرى تنشب الحرب إنها حرب 2006 وعلى جويس رؤية ابنتها وأهلها فكان لابد من اللجوء الى مجد ذي النفوذ لمساعدتها للعبور الى لبنان هذا اللجوء كان مضمخاً بعاطفة متقدة لم تَخبُ رغم وقوف الماضي عائقاً بين الاثنين...
يتخلى مجد عن سفره الى دبي بعد أزمته مع جويس ويهب لمساعدتها بالتعاون مع أبي سعيد الذي رباه ورعاه والذي يعرف كل مسالك لبنان وطرقه السرية وبمشهد ختامي ساحر بتعبيراته وتكوينه تعبر جويس وأختها جسراً مهتزاً معلقاً فوق النهر الى لبنان بعد عناق حار بين جويس ومجد, تمشي الحبيبة المغادرة فوق الجسر الخشبي المرتجف والذي يصل بين الأراضي اللبنانية والسورية مشيعة بنظرات مجد...
إنه الجسر – الرابط القوي بين أراضي البلدين فرغم صغره وضيقه واهتزازه المخيف إلا أنه يبقى معبراً بين القلوب التي أبعدت عن ذاكرتها الحروب والقتل والجراح، فالجسر باق كشافاً للذين يستطيعون التواصل والحب وبناء ذاكرة جديدة.. في حين تختفي مرحلة الأب الذي قال قبيل انتحاره أرفض أن أتحول الى شرطي لقد مضى زمننا وعلينا الرحيل معه..
فيلم (مرة أخرى) يغلف أفكاره العميقة ومقولاته السياسية بعباءة حب مطرزة بألوان الحياة المنتصرة على ذاكرة السواد.
جود سعيد في فيلمه الأول يبدو مخرجاً مقتدراً في اختيار أسلوبه وممثليه وموضوعه انه حياك ماهر صنع لنا فيلماً شفافاً رغم قسوته استطاع الحفر عميقاً في وجداننا وجعلنا نقف بصدق مع ماض يرفض الرحيل!!
وجود سعيد قدم لنا ممثليه بشكل استثنائي فقد جسد قيس الشيخ نجيب (مجد) في الفيلم أجمل أدواره حتى الآن فعفوية قيس وإمساكه بشخصيته جعل مجداً شخصية مركبة عميقة متنوعة تجمع بين ماضيها وحاضرها في تناقض غريب وإشكالي لكنها شخصية متماسكة بالوقت نفسه وقريبة لقلب المشاهد... واللافت أيضاً أداء جوني كوموفيتش (فني الصوت) المذهل فهو يقف أمام الكاميرا لأول مرة في شخصية الضابط أبي مجد القاسي الصلب الذي يخفي تعبيراته، جوني بدا وكأنه ممثل محترف لطالما وقف أمام الكاميرا.. التي أحبته فتجلى أمامها... أما المخرج عبد اللطيف عبد الحميد فكما عهدناه هو وراء الكاميرا وأمامها شخص واحد في عفوية أدائه وبساطته وإنسانيته..
أحمد الخليل
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد