الحرية الدائمة
بعد ثلاثين سنة على غيابه (15 نيسان 1980) يعود المفكر والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر ليحتلّ بعضا من واجهة الأحداث الثقافية في فرنسا. ثمة كتب جديدة، صدرت عنه مؤخرا، مثلما خصّت بعض المجلات الأدبية ملفات واسعة عنه، كما أعيدت طبع بعض أعماله، لعلّ أبرزها الكتاب الذي ضمّ ما سمي «الكتابات الذاتية» في سلسلة «لابلياد الشهيرة».
صدور «لابلياد» الجديد، لا بدّ من أن يعني تحول سارتر مرة جديدة إلى «صرح وطني»، يحاول الجميع أن يزيلوا عنه، ما علق من رواسب أخطائه الماضية، وبخاصة أخطائه السياسية من مثل عدم تنديده أحيانا باجتياح سوفياتي ما لبلد من بلدان أوروبا الشرقية أو مساندته لحركة يسارية هنا أو هناك، لكن بالتأكيد لن يتكلم أحد على مساندته الدولة العبرية.
في أيّ حال، ثمة أسئلة تطرحها هذه المناسبة، قد يكون أهمها، كيف نقرأ سارتر بعد مضي العشرية الأولى من القرن الجديد، ومنها ما يتناول دور المثقف في المجتمع وهل انه لا تزال صورة سارتر صالحة لهذا الدور.. فمن وجهة نظر فلسفية، يجد البعض أن سارتر وضع مدماكا ما في الصرح الفلسفي العالمي (بحسب ميشال كونتا إذ يعتبر أن نقد العقل الديالكتيكي من أهم الكتب الفلسفية) كما انه، أي سارتر، والتعبير لبرنار سيشير، يتحلى بقوة فكر منهجي، هو وقبل أي شيء آخر «عقيدة الموضوع» الذي اعتقد الفلاسفة التفكيكيون أنهم دفنوها سريعاً، كذلك أن عقيدة الموضوع تقود إلى حقلي اختبار يتقاطعان من دون شك: الأدب والسياسة.
أما من وجهة نظر أدبية، فيرى البعض انه كان يرى نفسه كاتبا حقيقيا (كما في «دروب الحرية») وقد وجد انه يستطيع وضع الأدب (بحسب حركة أفلاطونية قديمة) تحت حكم الفلسفة، وان كان تخلّى عن هذا الدور في ما بعد.
صحيح أن مسألة دور المثقف، لا تزال من المسائل التي تثير لغاية اليوم الكثير من اللغط، إذ هل على المثقف أن يلعب دورا سياسيا في المجتمع وان يدلي برأيه في كل قضية اجتماعية أم عليه أن ينصرف للبحث العلمي الجاد.. صحيح أن صورة المثقف كما عند سارتر قد فقدت بعض رونقها إلا أنها عادت تحت أشكال أخرى، وربما تخطته في أحيان أخرى.
لكن إزاء ذلك كله، ثمة سؤال لا بدّ أن يطرح نفسه: هل كان سارتر (لو أنه على قيد الحياة) وافق على هذه الاحتفاءات؟ ثمة شيء أساسي، نتناساه جميعا، وكما يتبدى في كل ما كتبه، بالرغم مما تثير من نقد ولغط وجدال.. ثمة درس علّمنا إياه: على الإنسان أن يبقى حرا في كل ما يقوم به ويفعله.
من هنا، هل نستطيع إلغاء سارتر كلياً، قد لا يوافق البعض على آرائه كلها، لكننا لا نستطيع إغفال هذا الشرط الذي حرّكه، في كتاباته، في مواقفه، في قضاياه.. ألا وهو شرط الحرية الإنسانية، وكم أننا اليوم في عصرنا الحديث هذا، في حاجة إلى هذه الحرية «الوجودية».
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد