«أفاتار» في مواجهة اعتراضات الجميع
«أثار «أفاتار» لجيمس كاميرون سجالات كثيرة في أصقاع الدنيا كلّها. السياسة حاضرة في النقاش. الأفكار والحضارات والبيئة أيضاً. من دون تناسي التفوّق التقني غير المسبوق. الأرباح المالية، البالغة نحو ملياري دولار أميركي في ظلّ أزمة اقتصادية خانقة في العالم، دفعت كثيرين إلى الشعور بالحسد والغبن. إلى قراءة الظاهرة من خارج السينما.
المجلة الفرنسية السينمائية «استديو سيني لايف» نشرت، في عددها الصادر في نيسان الجاري، تحقيقاً حول هذه السجالات كلّها، بعنوان «عمّا سيُغيّره «أفاتار» في هوليوود»، بقلم دوني روسّانو.
بدأ التحقيق بطرح سؤالين اثنين: «ما الذي يحوّل فيلماً إلى ظاهرة مجتمعية؟ وانطلاقاً من أي لحظة، يُصبح نتاجٌ فني رمزاً لعصره؟». رأى التحقيق أن «أفاتار» انتصارٌ كوكبي هائلٌ، لكن ليس سبّاقاً في هذا المجال: «إذا أخذنا في الحسبان التضخّم المالي، فإن فيلم جيمس كاميرون، بالمفردات المالية (الإيرادات)، ليس النجاح الأكبر في الأوقات كلّها». ذلك أن هذا اللقب (النجاح الأكبر) يبقى، أيضاً ودائماً، حكراً على «ذهب مع الريح» (1939) لفيكتور فليمينغ، و«أفاتار» يحتلّ المرتبة السابعة عشرة. أما إذا حُسِب رقم البطاقات المُباعة، فإن «أفاتار» يحتلّ المرتبة السادسة والعشرين: «هذه الحقائق تُنهك، قليلاً، الحالة الاعتدادية الحالية للفيلم، لكنها لا تمنع هذه المشهدية ذات الإنتاج الضخم من أن تكون، اليوم، أكثر بكثير من مجرّد فيلم ناجح».
نجاح وأزمة
هناك من يرى أن «أفاتار» بات «رمزاً لمقاومة الضغط غير القابل للتصديق في سينما أميركية تمرّ في فترة أزمة اقتصادية، حاملة راية الاحتمالات الخرافية، المُقدَّمة إلى السينمائيين على مخطّط الخلق الصافي». اتّخذ «أفاتار»، هو أيضاً، بُعداً غير متوقَّع: بإثارته نقاشات سياسية واجتماعية وثقافية وفلسفية، بات الفيلم «نوعاً من تجسيد موح بدهشة للأحلام ولطموحات مجتمعنا ولاوعينا الجماعي، ومخاوفهما». بهذا المعنى، فإن «أفاتار» ظاهرة خارج المعايير، إلى درجة أنه لا يُمكن لأي فيلم حالي آخر أن يُقارَن به: «(يجب ألا يُنسى) واقع أن جيمس كاميرون، للمرّة الثانية في مسيرته المهنية، وصل إلى لحظة بات يطفو معها في هواء الزمن. لذا، يستحق أن يُكرّم». لكن هناك أمرا آخر غير النجاح التجاري الكبير لـ«أفاتار»: إنه النقاش الذي حرّض الفيلم عليه في دوائر مغلقة، عادة، في هوليوود، وهو نقاش «كشف عمق أثره».
في الأوساط الهوليوودية، جيمس كاميرون مثيرٌ للإعجاب، محسود ومكروه. في الواقع، هناك كثيرون لا يزالون حاقدين على تعبيره: «أنا ملك العالم!»، الذي أعلنه إثر فوزه بجوائز «أوسكار» عدّة عن «تايتانيك» في العام 1997: «مكروهٌ بسبب مزاجه الصعب. والتصوير الكابوسي لـ«هاوية» (1989) لا يزال مشهوراً. سخروا منه بسبب سيناريوهاته المليئة بالكليشيهات. لكن الجميع يُقدّره، لأنه يصوّر مشاهد متفرّدة تؤدّي إلى أرباح، ونجاح «أفاتار» ليس نجاح استديو أو نظام، بل نجاحه الشخصي. بهذا المعنى، كاميرون هو الرابح الأكبر في التحدّي الذي فرضته مغامرة هذا الفيلم. ليس فقط يُثبت المخرج مرّة أخرى بعد «تايتانيك» أن خياله متصل بما يريد العالم كلّه مشاهدته في السينما، لكن، بابتكاره عالماً لا يُشبه أي شيء آخر باستثناء كوكب باندورا، فجّر موهبته كمبدع رؤيوي». أكثر من ذلك، ومع هذا النجاح الهائل، أكّد كاميرون أنه مؤلّف مستقلّ بحدّ ذاته، «لافت للانتباه لإصراره على صنع الفيلم الموجود في رأسه منذ سنوات، ولرفضه تدخّل أي استديو في السياق الإبداعي. نجاح كاميرون أصبح، بالتالي، النجاح الذي يطمح إليه كل سينمائي حالم بهوليوود، لا يريد أن يكون سجين ضغوط الاستديوهات. نجح المخرج (وهو) داخل النظام الهوليوودي، من دون أن يلويه النظام نفسه: عمل باهر، نادر، ونموذجيّ». ثم إن «فوكس للقرن العشرين»، مُنتجة الفيلم وموزّعته، سعت إلى إقناع المخرج بحذف رسالته حول البيئة. لكن المخرج رفض: «هذا (الرسالة البيئية) سبب إنجازي الفيلم». ناضل كاميرون، حتى النهاية، كي يبقى فيلمه أميناً لرؤيته الداخلية: بهذا المعنى، يُمكن القول إن نجاح «أفاتار» نجاح صاحبه في هوليوود.
الصناعة بخير
إذا صرّ البعض أسنانه أمام ما يعنيه رنين نجاح «أفاتار» بالنسبة إلى جيمس كاميرون شخصياً، فإن الجميع في هوليوود يُدرك جيداً أن تأثير السينما الأميركية إيجابي للغاية: «نجاحٌ بهذا الاتساع خيِّرٌ للصناعة كلّها. هناك الخطوة التكنولوجية الكبيرة إلى الأمام التي قدّمها الفيلم، بتحقيقها تحوّلاً حقيقياً شبيهاً بالتحوّل الذي صنعه دخول الكلام إلى الأفلام في العام 1927، والـ«تكنيكولور» في العام 1935، و«سينماسكوب» في العام 1953. وبفضل «أفاتار»، باتت تقنية الأبعاد الثلاثة أولوية بالنسبة إلى الاستديوهات، من «وارنر» (صدمة التيتان، هاري بوتر 7) إلى «سوني» (الرجل العنكبوت 4)». أضاف التحقيق أن هناك أكثر من عشرين فيلماً ستُنجز بهذا الشكل في العام الجاري: «لغاية كانون الأول المقبل، يُفترض بثلث الصالات الأميركية أن تتجهّز بأنظمة عرض ثلاثية الأبعاد. ما فعله «مغنّي الجاز» (1927) لآلان كروسلاند على مستوى الأفلام الناطقة، يصنعه «أفاتار» على مستوى تقنية الأبعاد الثلاثة. فالابتكارات التقنية التي تخيّلها كاميرون وأعضاء فريقه لوضع عالم باندورا في إطار بصري هي، حرفياً ومن دون تلاعب في الكلمات، «علبة باندورا». ثم إن كون التقنيات في هذا الفيلم موضوعة في خدمة النصّ، فهذا أشبه بوضع الكرز على طبق الحلوى. إنه درس يجب على سينمائيين عديدين أن يحفظوه».
كما هي الحال غالباً، عندما يحظى أمرٌ ما أو شخصٌ معيّن بنجاح خارق، تعلو أصواتٌ نقيضة ومزعجة. هذه الأصوات هي التي أثارت نقاشاً حول الفيلم، والتي حوّلت نجاحاً تجارياً إلى شيء آخر: «ظاهرة مجتمع». جاء في تحقيق دوني روسّانو أن المحافظين الأميركيين، المتأهبّين دائماً للحرب، هم الذين أطلقوا الحملة: «سريعاً، وجدوا في الفيلم استعارة نقدية للحرب في العراق، ورسالة هجاء مناهضة للعسكرية وللأميركية»، ناقلاً عن جون بودوريتز (ويكلي ستاندارد)، رأيه المتمثّل بأن الفيلم طلب من المُشاهد «الموافقة على هزيمة الجنود الأميركيين إزاء فتنة مسلّحة»، وعن آرموند وايت (نيويورك برس) قوله: «عندما يدمِّر العسكريون شجرة الروح، يُذكّر الفيلم باعتداء الحادي عشر من أيلول. هذه المصوّرات تبدو كأنها تقول إن «المركز العالمي للتجارة» كان معبد الرأسمالية الأميركية». أضاف التحقيق أن اليمين الأميركي انفجر مهدِّداً. أما كاميرون، فلا ينفي شيئاً، بل على العكس: «بصفتي فناناً، شعرتُ بالحاجة إلى قول شيء ما متعلّق بما يحدث حولي». الجدل، من ناحية أخرى، يُسلّيه: «لنقل إني مفتون بإزعاج هؤلاء الناس. رؤيتهم العالم لا تعجبني». لكن كاميرون يُدافع عن نفسه إزاء تهمة العداء للحسّ الأميركي، ويُذكّر: «أن يكون المرء أميركياً، يعني أن تكون لديه حرية التعبير عن أفكار رافضة».
الحرب الثقافية والفكرية التي حرّض «أفاتار» عليها، كما وصفت تفسيرات عدّة هذه المسألة، لا تقف هنا: اتُّهم الفيلم من قِبَل النسويين بأنه معاد للنساء، ومن قِبَل الليبراليين بأنه مُدافع عن أفكار أبوية حول العلاقة بين الرجل الأبيض والقبائل الأهلية، ومن قِبَل الجمعيات المناهضة للتدخين بأنه رقّى السيجارة، ومن قِبَل الفاتيكان بأنه مجَّد عبادة جديدة للأصنام خطرة، ومن قِبَل «نيويورك تايمز» بكونه «أحدياً» (القائل بوحدة الوجود، أو ذو علاقة بمذهب وحدة الوجود: أي إن الله والطبيعة شيء واحد، والكون المادي والإنسان ليسا إلاّ مظاهر للذات الإلهية)، ومن قِبَل السينافيليين بأنه نسخ «بوكاهونتاس» (1995) لمايك غابرييل وإيريك غولدبيرغ و«مغامرات زاك وكريستا في الغابة الاستوائية في فيرنغولّي» (2002) لبل كروير، ومن قِبَل الروس بأنه نهب القصص الأكثر مبيعاً، الصادرة في الستينيات، والتي تدور أحداثها في كوكب باندورا حيث تُقيم عشيرة «ناف». أما السلطات الصينية، فارتأت عرض فيلم عن كونفوشيوس بديلاً من عرض 1600 نسخة من «أفاتار»، لأنه تماهى بأحد الرموز الأسطورية الخاصّة بالصين.
نديم جرجورة
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد