ماذا يجري داخل لجان تحكيم كان
ماذا يجري داخل لجان التحكيم الخاصّة بالمهرجانات السينمائية؟ أي علاقات تنشأ بين أعضائها؟ ما هي القواعد المعمول بها في النقاش؟ ماذا عن النفسي والثقافي والمزاجيّ؟ أسئلة لا تنتهي. لجان التحكيم تكون، غالباً، متقوقعة على نفسها. أعضاؤها صامتون. أو هكذا يُفترض بهم أن يكونوا، أقلّه أثناء انعقاد الدورات السنوية. أحياناً، تكون اللجان قلاعاً حصينة. تُخفي وراءها أنماطاً شتّى من السلوك والوعي المعرفي والشخصيات. لكنها لا تخلو من خلافات. أكاد أقول انشقاقات. مع هذا، أمام أعضاء اللجان المذكورة وقتٌ محدّد لاختيار لائحة الفائزين. لا يُمكن التلاعب به.
لجان التحكيم
المجلة الأسبوعية الفرنسية «تيليراما» طرحت أسئلة كهذه، في تحقيق لأوريليان فيرينكزي منشور في عددها الصادر في الثاني عشر من أيار الـجاري، أي في اليوم نفسه الذي شهد افتتاح الدورة الثالثــة والستـين لمهرجان «كان» السينمائي. ما أدّى، بطبيعة الحال، إلى استعادة فصول من الذاكرة الخاصّة بلجان تحكــيمية عدّة تشكّلت سابقاً في المهرجان نفسـه. في دورة هذا العام، اختير السينمائي الأميركي تيم بورتون رئيساً للجنة التحكيم. هناك سؤال مطروحٌ في بدايـة التحقيق: أي تأثير تمارسه شخصية رئيس لجنة التحكيم على اللائحة النهائية لنتائج المسابقة الرسمية لمهرجان «كان»؟ رئيس لجنة الدورة الحالية «شخــصٌ مميّز». فهل يدعم هذا الـ«خمـسيني الشــاب المهووس بالوحوش، المرتدي زيّاً أسود والمنفـوخ الشعر» أفلاماً قريبة من عالمه السينــمائي؟ هل يُفتــرض بهذا النوع من الأفلام أن تتلاءم وسينما المؤلّف الواقعـية؟ السؤال الأبرز هو: «ما الذي يُمكن معرفته عن تيـم بورتون المُشَاهد؟ هل شاهد أفلام (الفرنسي) برتران تافيرنييه؟ هذا ممكن. أفلام (الإيراني) عباس كياروستامي؟ من يدري».
جيل جاكوب (رئيس مهرجان «كان») طرح المسألة من وجهة نظر أخرى: «ربما أراد (بورتون) أن يندهش. ربما يُساعد نتاجات سينمائية لا يُتقن تحقيقها. لن نعرف شيئاً مسبقاً عن مسار الأمور. نجهّز لائحة تضمّ أسماء سينمائيين نرغب في أن يكونوا رؤساء لجان التحكيم. بعدها، ننتظر فرصة مناسبة لاختيار سينـمائي متفرّغ من العمل في فترة المهرجان. اسم بورتون موجود في اللائحة منذ بعض الوقت. اسم (الأميركي) ستيفن سبيلبيرغ موجود منذ فترة أطول. إنه دائم العمل. ذات يوم، سيكون سبيلبيرغ رئيساً للجنة تحكيم. هذا أمر مؤكّد». غير أن رئيس اللجنة لا يختار أعضاءها: «97 بالمئة من الحالات نُقنعهم فيها أن فرض شخـص مقرّب من رئيس اللجـنة أمرٌ ليس جيــداً. هذا يــؤدّي إلى إنشاء جماعات. تيم بورتون أدرك الأمر، فـتركنا أحراراً. قال إن لا أعداء له. إن هناك، ربما، من لا يُحـبّه. لكـنه يجهل هذا». لا يختار الرئيس الأفلام التي يُشاهدها أيضاً. هذا بديهي. لكن السؤال مطروحٌ دائماً في اليوم الأول للمهرجان. في المؤتمر الصحافي الخاصّ بلجنة التحكيم. لا يملك الرئيس صوتين. لكنه، بالإضافة إلى استفادته من غرفة أكبر من غرف أعضاء اللجنة («يحصلون جميعهم على استضافة جيدة»، كما يستدرك جاكوب)، يتحمّل مسؤولية تنظيم عمل اللجنة. وعند الضرورة، يهتمّ باحتفالاتها.
«نرى سريعاً كيف يتـعاطى الرئيس مع أعضاء لجنته»، قال جاكوب. أضاف: «البــعض متواضع. يقول إنه عضو لجنة تحكيم كالآخــرين. غير أن لأقواله وزناً وقيمة. هم دائماً فنانون كبار. (الأمــيركي) فرنـسيس فورد كوبولا نموذج ديموقراطي للغاية لرئيس اللجنة. واجه، بشدّة، «كراش» (1996) للكنديّ ديفـيد كروننبيرغ. لكنه، أمام رغبة أعضاء لجنته في منحه جائزة، وافق. رؤوسـاء آخرون يكـــونون توجــيهيين أكثر، وعلى أعضاء لـجانهم التحـكيمية الدفاع عن أنفسهم وقراراتهم. أتذكّر أن (الفرنسـية) جاين مورو طلبت من أعضــاء لجـنتها مــشاهدة الأفــلام مع بعضهم البعض. قالوا: «بالتأكيد». عندها، أخبرتهم أنها ستشارك في حفلة الثامنة والنصف صــباح كل يوم. طوال أيام المهرجان، توافدوا على مكتبي متذمّرين من التوقيت».
ديكتاتورية
على الرغم من سرّية المداولات الحاصلة داخل لجان التحكيم، فإن هناك حالتين شهيرتين، بسبب «ديكتاتورية رئيس اللجنة»: في العام 1991، فرض (الفرنسي البولوني) رومان بولانسـكي ثلاث جــوائز لـ«بارتون فينك» للأخوين (الأميركيين) كـوهين. مــساء كل يوم، أثناء صعوده على سلم قصر المهرجــان، كان السينمائي ينظر إلى جيل جاكوب نظــرة ساخــرة. يهزأ بالأفلام التي يُشاهـدها. يتســاءل مراراً عن فيــلم يُرضيه. أخيراً، عُرض «بارتون فينك». لم يكن صعــباً علـى أحد أن يكشتف سماته البولانسكية، في شخصية السيناريست المُصاب ببارانويا (جون تورتورو. إحدى الجوائز الثلاث له). «إذاً، صوّت الرئيس لـ... نفسه». حالة شبيـهة بها جرت فصــولها في الــعام 2003. اختير (الفرنسي) باتريس شيرو رئيــساً للــجنة التحكيم. لائحة الجوائز مشدودة للغاية: أربعة أفلام فقط، منها ثلاثة («فيل» للأميركي غاس فان سانت على رأسها) «حاز كل واحد منها جائزتين». هذا أثار غضب منظّمي المهرجان. وجدوا النتيجة منقوصة الكرم: «هناك أمر أول أقلقني. قبل وقت قليل على بدء المهرجان، أُجري معنا، باتريس شيرو وأنا، حوارٌ صحافي مشترك. في النهاية، سأل شيرو الصحافية: هناك سؤال لم تطرحيه عليّ: ما هو المهرجان الذي تفضّله؟ أقول لك: برلين، بالطبع. قلتُ في نفسي: بدأ الأمر سيئاً. أعتقد أن شيرو، وهو في المقابل فنان كبير، لم يهضم مسألة عدم فوزه بالسعفة الذهبية عن فيلمه «من يحبّوني، فليستقلّوا القطار». هذا ليس خطأ المهرجان. لديه تصوّر منقوص عن المنصب». في مقابل هذا كلّه، احتفظت الممثلة الفرنسية كارين فيار (عضو لجنة تحكيم شيرو) بذكرى مختلفة. أكّدت أن «مسار العمليات مرتبط، أساساً، بالرئيس». قالت إن اللجنة منفتحة: «باتريس شيرو كان جدّياً عند اللزوم. لكنه أفسح مجالاً للاسترخاء والضحك. لم يكن ديكتاتوراً. أتاح للآخرين، دائماً، أن يقولوا ما لديهم. ذاك العام، لم تكن المشكلة في اللجنة، بل في اختيار الأفلام. عانينا الأمرّين أثناء مشاهدتنا أفلاماً لا مكان لها هنا. أثناء المداولات الأخيرة، غضب جاكوب كثيراً. ذكّرنا مراراً بقوانين المهرجان. كانت لدينا رغبة في سؤاله: لماذا لم تختاروا الأفلام بطريقة جيّدة؟».
أحياناً، تحدث أزمات. تقع فتن أو انشقاقات. تحصل مواجهات حادّة داخل اللجان. في العام 2005، ترأّس البوسني أمير كوستوريتزا اللجنة. السينمائي الفرنسي بونوا جاكو كان عضواً فيها. معاً، شكّلا نموذجاً واضحاً لحالة المواجهة المباشرة («وجهاً لوجه» كما يُقال) بين طرفين متناقضين. ليست نادرة حالة كهذه. إنها معركة حقيقية. فريدة من نوعها. تذكّر جاكو أن «كوستوريتزا سمّى نفسه، سريعاً، الـ«كوموندانتي». أعطى، حالاً، صورة عمّا ستكون عليه رئاسته. جانب متبجّح، مستعدّ لابتسامة. تنظّم إدارة المهرجان، دائماً، حفلة عشاء قبل افتتاح كل دورة، كي يلتقي أعضاء لجان التحكيم بعضهم مع بعض. في ذاك المساء، أدركتُ، سريعاً، أن الـ«كوموندانتي» كوّن ملفاً عنّي. استعلم عنّي كثيراً وجيّداً. حدّدني، فوراً، في هيئة شخص سيجد نفسه هو في مواجهة معه أثناء المناقشات. هذا دور أسرعتُ، أنا، إلى لعبه».
«أفضل عدوّ»
في ذاك العام، لم تنقــسم اللجنة إلى جماعات، بل تفرّق الأعضاء إلى من تبع كوستوريــتزا، حتى عندما أحيا حفلتين موسيقيتين، في مقابل من حافـظ على مسافة معه: «هناك من كان يحبّ موسيقاه، فعلياً. بالنسبة إليّ، هذه جلبة رهيبة». ظلّ الرجلان، في الاجتماعات كلّها، «على خلاف شبه دائم»، إلى درجة أن كوستوريتزا، في خطوة استراتيجية، اقترح على جاكو مشاهدة أحد الأفلام معاً لوحدهما، من دون باقي أعضاء اللجنة، كي يستطيعا التحدّث عنه بشكل جيّد: «هذه مبارزة»، كما جاء في التحقيق، الذي نقل عن جاكو قوله إنه «كان لديه فيلم مفضّل قبل وصوله إلى «كان». أراد منحه السعفة. لم تكن لديّ أحكام مسبقة. بعد مشاهدته، وجدتُ أن فكرته منقوصة». إنه «زهور مكسّرة» للأميركي جيم جارموش. ناضل جاكو من أجل «ثلاثة أوقات» للصيني هو هسياو ـ هسيان: «شَخَر أعضاء اللجنة جميعهم بطريقة لم أشهدها منذ وجودي في المدرسة الداخلية». هذا ما حصل مع «تاريخ العنف» لكروننبيرغ، الذي قيّمه كوستوريتزا بالقول إنه غير جدير بـ«كان». بما أن فيلميه المفضّلين استُبعدا، عمل جاكو المستحيل كي لا ينتصر فيلم الـ«كوموندانتي». أثناء المداولات، عبّر كوستوريتزا عن نفوره من الأفلام، مقدّماً حججاً واهنة. بدت الأمور سيئة. بعد تحديد غامض لـ«الفيلم الجيّد» طرحه كوستوريتزا، سأله جاكو عن تحديده ماهية الفيلم المرشّح للسعفة: «إنه الفيلم الذي يتحدّث عن الإنساني بنزعة عالمية». كأن التحديد «صادر عن المكتب الكاثوليكي»، كما قال جاكو، الذي طرح «الولد» للأخوين البلجيكيين داردين مثلاً لهذا التحديد. وافق الجميع. كوستوريتزا نفسه، الذي بدا متعباً، لم يعترض. في النهاية، أهدى ملصق المهرجان لجاكو، كاتباً عليه: «إلى أفضل عدوّ لي».
أهي قلـيلة الروابط القائمة بين سينما كوستوريتزا وأفلام الأخــوين داردين؟ لعـلّها ليست أقلّ من تلك القائمة بين سينما الرئيس الصيــني (هونغ كونغ) وانغ كار ـ واي وأفلام السينمائي البريطـاني كن لوتش، الذي فاز حينها بالسعفة الذهبــية، عن فـيلمه «الريح التي تهزّ الشعير» (2006). يتـذكّر الفرنــسي باتريس لوكونت (عضو اللجنة) تلك الفترة، بقــوله إن هذه السعفة «مُنحت في خمس دقائــق، وبمـزاج جيّد». عُرض فيلم لوتش في اليوم الثاني. لم تفـتر حماسة أعضاء اللجنة طوال أيام الدورة تلك: «ظلَّلـنا مناخ جيّد. لم يكن وانغ كار ـ واي أبداً المبـدع الغامــض الذي تخيّلته. إنه شخص لطيف. منفتــح على الآخرين. يستمع إلى كل واحد منهم. لم يُشاهد أياً من أفلامي، بالتأكيد. لكننا تحدّثنا عن الإخراج كزميلين، من دون عجرفة من قبله. التجربة مثيرة. بفضلها، أقمت صداقات عدّة».
نديم جرجورة
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد