الأدباء الروس الشباب يميلون الى التصنع
ترى القاصة والناقدة الروسية الشابة إنجا كوزنيتسوفا أن الكتب الجيدة في أدب السنوات الأخيرة ليست بالطبع كثيرة. وترى أيضاً أن هذا أمر طبيعي. وأسباب ذلك، كما تقول، لا تعتمد على الوضع الأيديولوجى في روسيا. فالأدب من وجهة النظر التقليدية كان على الدوام شيئاً فائضاً أو زائداً عن الحاجة، وكان الاشتغال به ممكناً فقط رغم الأنف - رغم أنف الاتجاه الرسمي، والخوف، وضرورة إعالة الأسرة، والتوازن النفسي... ولعل عصر اللسان المربوط، الذي لم يعاصره في الواقع «جيل من هم الآن في سن العشرين والثلاثين»، استطاع بحق أن يُنَشِّط هذه الـ «رغم أنف» ويحفزها. ولكن عندما انتهى هذا العصر، اتضح أن الكثير من النصوص الرائعة (وبالضبط أكثرها حباً للحرية ومناداة بها) كانت منفصلة في علاقتها به. وبسقوط السياق العام لذلك العصر أصبحت تلك النصوص غير مهمة أو ممتعة، أو أصبحت ببساطة غير مفهومة أو مقبولة، لأن مؤلفيها في شكل رئيس، وعلى نحو غير مألوف ومتناقض ظاهراً، صدقوا أكثر من اللازم اللغة السائدة لذلك العصر. وفاز فقط أولئك الذين استطاعوا أن يشقوا طريقهم نحو خطابهم الداخلي (الذي كان بدأ يصيح، وأصبح لديه ما يقوله على العكس من اللغة المصطنعة، لكنّ قوة النص الذي كانوا يكتبونه كانت تُسْتَنْفَد على تمثيل تلك اللغة وتقديمه على صورتها). واستطاع القليلون أن يشقوا طريقهم ويصلوا إلى النهاية، وكم من النصوص أفسدتها الحلول الوسط - وهذا لا يمكن تفسيره فقط بالظروف القاسية لذلك العصر.
لعلّ أسباب قلة الكتب الجيدة، كما ترى الكاتبة الروسية، لا يتوقف على الظروف الخارجية. فالأسباب هي نفسها التي كانت موجودة على الدوام، وهي أن الوصول إلى حالة الإخلاص للنص الداخلي (هذا بالطبع إذا كان طاغياً وملحاً) عملية في غاية الصعوبة. ومن الصعب جداً ترجمة هذا النص إلى لغة أدبية واضحة في الوقت الذي تجرفك اللغة السائدة وتحملك بعيداً من الكلمة الوحيدة الدقيقة المناسبة للتعبير عن حالة بعينها.
إن ذلك التصور عن الكلمة الوحيدة الدقيقة المناسبة يبدو غريباً في عصر الثقافة المغرمة بالإمكانات الزائفة للسينما والتلفزيون والتي تنعكس أشكالها في ملايين الصور التي تُؤَوَّل بآلاف التأويلات والتفسيرات. ومع ذلك - تعتقد إنجا كوزنيتسوفا – أن كل ما هو جديد يُولَد كالعادة في أعماق الإنسان، وكالعادة يكتسب طبيعة عضوية، كنسخة طبق الأصل من هذا العمق الإنساني، وكالعادة يكتسب مكانة نادرة ورائعة. حتى علم الجمال، الأكثر صبراً وطول بال على تردد المؤلف، يقدم دائماً خياراً خاصاً، بل وهناك فرق كبير بين تعدد الاحتمالات أو الصيغ فى قصة أكوتاغاوا الشهيرة، مثلاً، المكونة فقط من مجرد أطراف لاحتمالات أو صيغ يتناقض بعضها مع بعض بخصوص وقوع الحدث، والتي تُسْرَد على لسان المشاركين والشهود في المحكمة، نجد أن كل واحد من هذه الاحتمالات أو الصيغ يدخلنا إلى واقع مقنع بنفس الدرجة... وبين وجود الاحتمالات والصيغ على مستوى السطور والتي من السهل أن تستخدم من أجل تمويه عدم قابلية النص في عمومه للفهم.
وتضيف كوزنيتسوفا بأنها عندما تتبعت باهتمام الأفكار التي طُرِحَتْ حول: ما هو الشكل الذي يجب أن يكون عليه الأدب والمدخل النقدى إليه، لاحظت أن النظريين يطلبون من الأدب تنفيذاً واعياً لبعض المهام التي ليست فى طاقته معولين على أن ذلك سوف «ينهض» به - على سبيل المثال، أن يعكس أي شيء من الواقع الجديد: «ماذا؟ تطور اقتصاد السوق؟ إلغاء الرقابة؟ اللاجئون والمُشَرَّدون؟». أما العمليون فيصرون على نزوات الوعي الباطن التي لم يكن يميل إليها العصر السوفياتي، ولكن الوعي الباطن يمكن أن يكون مليئاً بالكثير من الكلمات والأشياء الغريبة غير العضوية بالنسبة إليه.
وتتحدث الناقدة مباشرة: «يبدو لي أن إمكانية الأدب الجديد متوارية ليس وراء أي شكل طازج أو جماليات أو مضامين معينة مسبقة. إنها قضية الأصالة للذي يُكْتَب وكلية حضوره في العالم، وإمكانيته على أن يكون، وعلى أن يعيش في شكل حقيقي وأصيل. إن عصر حرية اللغة لا يُصَعِّب إمكانية الحياة والتعبير في شكل مستقل. والضروري فقط هو أن نفصل بدقة بين الأدب والمعلومات (وكذلك التقليد). فالعمل الأدبي لا يتحقق كعمل أدبي إذا لم يكن المؤلف حاضراً في النص بالكامل، وليس فقط بما اكتسبه بذكاء الوعي الباطن. لأن ما يحدث في النص يجب أن يكون نتيجة لكل من الإدراك والوعي والوعي الباطن في شكل دقيق للحدث الشخصي الخاص، وذلك عندما يعمل كل من النصف «المنطقي» والنصف «الحدسي» للدماغ في وقت واحد على حد سواء، ويتبادلان معاً الشرارة. إذا لم يحدث ذلك فإننا نحصل ليس على أدب أو تقريباً ليس على أدب، وإنما نحصل، على سبيل المثال، على كتاب يستعرض الموهبة الشخصية».
من الواضح أن هذه ليست مشكلة الكتاب الشباب فقط، أولئك الذين يسقطون مع الزمن، ومنهم من يغرق في أحداثه الذاتية، ومن منهم يهيم على وجهه بالقرب من الأدبي. أما التصنع والصدفوية التي يميل الكتاب الشباب في روسيا إلى الإعلان عنها كمبادئ جمالية جديدة تخترق الكذب والتقليد، فالأساتذة الحرفيون فقط هم الذين يستطيعون عادة أن يموهوها بدقة. ولكن كيف يبدو النص الحالي، في الأدب الروسي، الذي يكون حضور المؤلف غير كامل فيه، والذي يتماس معه من بعيد؟
في أفضل الأحوال يهيمن عليه الخطاب الآني السائد ولغة العصر المتحررة، وكأنه هو ذاته - أي النص - الذي يستقصي ويبحث ذاتياً في إمكاناته القصوى وفي شكل مستقل ومعزول. ومن صفات هذا النص أيضاً التعرض للموضوعات - وهذه أفضل نتائجه أو مهماته، إذ إنه يتأسس من حيث المبدأ على مستوى لغوي خالص. وربما يمتلك الأدب التجريبي تأثيراً طبياً نفسياً قوياً وفي شكل رائع: هذا إذا تحرك في شكل مُوَجَّه ومتوالٍ، ولكن مع ذلك سيتمزق نسيجه اللغوي وستتعرى الواقعية الموجودة التي قد تكون غير مهمة أو ممتعة في حد ذاتها، والتي ستبدو أمام الجميع خيالية وموضوعية ورائعة بنتيجة التناقض المفاجئ. أما الحالة الأسوأ بالنسبة للقارئ فيبدو فيها النص وسيلة لل خروج إلى الفضاء الكوني المفتوح الخالي من الموضوعات، ربما لأنه ليس في الواقع هو الفضاء الكوني، وإنما مجرد فضاء صوتي مغلق بهذا النص، وحيِّز للغة المُعْتَمَدَة التي لا تبحث فينا عن أراء مضادة وشكوكية تتعلق بأفكارنا الخاصة. تلك النصوص على ما يبدو تُكْتَب فقط لمجرد الحفاظ على الوعي المُسْتَبْدَل - وتأثيرها مشابه لتأثير المخدرات نظراً الى أنه تأثير مُصطَنَع. وعندما نقرأ الكثير منها يتولد لدينا إحساس حاد بالإهمال الذي يعاني منه مؤلفها. ومع ذلك فهي ليست على تلك الدرجة من الإقناع لكي تصيب القارئ بالعدوى، لأن الشعور بالإهمال هو الشعور الوحيد الذي يعانيه المؤلف من العالم. الحديث لا يدور حول الأعمال السردية للكتاب الشباب عموماً، بل عن نموذج معين للنص الذي تسقط في شباكه غالبية الناس. وعندما نصل إلى تقنيات تيار الوعي، يعثر الكثيرون في تلك الحالة على سحابة دخان ضخمة تعيش في داخلهم، تلك التي تكونت من القراءة العامة لكل من كافكا وجويس، أو ساشا سوكولوف مثلاً. هنا لا يبقى سوى خطوة واحدة فقط على التقليد. غير أن أكثر الحالات إثارة للحزن والأسف: أن يُكْتَب النص في شكل بارد وحرفة أدبية مع السير على طريق أحدث النماذج الفنية والعلمية. أما النصوص الأصيلة فهي مختلفة تماماً. وأهم ما فيها، ربما كرد فعل على الفائض اللغوي للثقافة المحيطة، التركيز الشديد، وربما حتى الاقتصاد والبخل في الحديث، و «ابتلاع» الكلمات الزائدة، وكأنها تلك النظرة البسيطة والسهلة (لا البدائية) على الأشياء والتي تسمح لها بإثارة الدهشة وبالحديث عن نفسها بنفسها.
أشرف الصباغ
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد