حول مذيعات الجزيرة والتنميط وغسل الدماغ والجوارب
الجمل– أيهم ديب: لو نظرت في صورة مجموعة من الأشخاص هل تعتقد انك قادر حقاً على معرفة مهنهم؟ أو أي شيء عن تاريخهم الشخصي؟
إن محاولة رسم انساق أو التنميط غايته الأساسية هي تنظيمية و لا يجب أن تتحول هذه الحاجة التنظيمية الى حقيقة. لأنها مجرد إيهام مؤقت.
هذا يشبه السؤال الشهير من انت؟ أنا مهندس؟ أم أنا زير نساء؟ أم أنا كاره للأفاعي أم أنا عاشق لموسيقا الروك ... ليس من السهل الاجابة على السؤال و لكن ثمة نقاط علام تستخدم لتثبيت نظام ما . و لكن هذه العلامة شرطية و هي ليست حقيقة مغلقة و نهائية.
فالرجل ذو الذقن الطليقة والبنطال القصير يشير الى كونه مسلم ولكن لا يمكن الجزم إن كان يمثل الاسلام حقاً. أو انه يمثل الاسلام في زمن ما.
إن ما يطلب من مذيعة الأخبار فعله هو الظهور برصانة حتى تجعل المشاهد يصدق الخبر أو أقرب الى تصديقه، مع علمنا ان المذيعة ليست هي من يحرر الخبر او يصنعه، و أنها سواء كانت تمساحا ام كانت الأم تيريزا فإن شكلها لن يؤثر على مصداقية الخبر و لكنه سيؤثر علينا من خلال الطريقة النمطية التي تم تنشئتنا عليها.
و هنا يكون السؤال : هل يحق لأحد تنميطنا ؟ ام أن هذا يدخل ضمن آليات غسيل الدماغ و من ثم يتحول الى ما يشبه الحقيقة؟
يمكن قول الكثير عن الصورة و الصوت- المعنى- فتحول صناعة الأغنية أصبح باتجاه تقريب الهوة بين الصورة و الصوت: المغنية الجميلة و المغني الوسيم.
محاولة ربط سلة قيم -هي في الحقيقة غير مرتبطة- للوصول الى رسائل مركبة هو جزء من التحولات في أشكال الاتصال المعاصرة و إن لم يكن حتمية نهائية.
هل يوجد هوية تلفزيونية؟ نعم في الواقع يوجد . و لكن هل يجب حمايتها؟ في الحقيقة كلا. إلا إذا أردنا ان نبقى أمناء لتجربة بافلوف و كلابه: أي أن يبقى في اعتقادنا ان عمامة رجل الدين تعني انه علاّمة و مؤمن . و أن نظارة المذيع توحي بثقافته , و ان طول شعر الفنان يوحي بعبقريته .
هناك شقين للموضوع و هما: ان المحطة التلفزيونية تريد استقطاب شريحة من الجمهور مستفيدة من إرث التنميط الذي كرسته وسائل الاعلام و غيرها من المؤسسات، و لكنها بهذا تعمل على استمرار هذه الكذبة برغم أن الانسانية اليوم قدمت الكثير فيما يخص تفكيك آليات عمل السيطرة الاجتماعية و إدارة العقل البشري.
لا أدري ما التأثير الذي يجب ان أخضع له كزبون عندما أذهب لشراء بطاقة طيران: أعني التأثيرات الجانبية و المضافة عن الغاية الحقيقية و هي تجربة شراء بطاقة سفر . فلأسباب تتعلق بتطوير نظريات الاقتصاد خارج نطاق البيع و الشراء باتجاه نطاق التحكم و التسلط و المناورة تم الدفع الى ابتكار كل ما نراه من خيارات ليس أولها لون الجدران و ليس آخرها شكل الموظف: الطول أو القصر أو النحافة أو السمنة ، باختيار اليونيفورم....
في الحقيقة إن الخدمة الوحيدة التي يريدها الزبون هي تسعيرة منخفضة و عروض أفضل، و لكن الحرب الاقتصادية و التي ساحتها ليست فقط السوق أو الدكان أو مكتب السياحة و إنما تعدتها الى عقل المشتري و نفسيته و سلوكياته هي ما دفعت الاقتصاد الى تدخله بكل التفاصيل المتعلقة بهوية المؤسسة بل و المجتمع.
إنها مزيج السلطة مع الاقتصاد.
لهذا فإن الجواب الفصل هو: إن الانتباه الى تطور سلطة المؤسسات و محاولة التوازن معها هو ضرورة لا مناص منها لجماهير العمال و الموظفين و إلا سيكونون عرضة للاستغلال بطرائق نشهدها اليوم في محاولة المؤسسات فرض بوليصات و سياسات داخلية ليس غايتها الحقيقية النهوض بالعمل بقدر ما غايتها فرض سلطة مطلقة.
و يكفي ان تتوجه الى إحدى شركات الخلوي في سوريا و تتمتع برؤية الموظفين و هم ينفذون بالحرف دروس و إرشادات المدربين المحترفين في تحويل الانسان الى آلة. فأنت تشتكي للموظف الذي يكرر كالببغاء وراءك: أعرف استاذ, ممكن استاذ, ما فيني استاذ. مع محافظته على ابتسامة لا تعني أنه مهتم بك و لكنها مطلوبة من أجل هوية المؤسسة التي ليس ضمن اهتماماتها لماذا يكاد الزبون يمزق ثيابه أمام الابتسامة البليدة لموظف هو نفسه ضحية حاجته لوظيفته و للحصول على توصية من مديره المباشر الذي يعمل كجلاد بربطة عنق و لكنه يحمل خيار ان يرسل الموظف الى بيته أو يبقيه في هذا العمل المذل بلا سلطة و بلا أحاسيس و بلا أية قدرة على المحاكمة او التصرف بأخلاق. مما يتسبب بهوة إنسانية عند الزبون و عند الموظف.
هذا التغريب في العلاقات الاجتماعية و تحويل الانسان الى ماكينة بشرية بات خيار استراتيجي للمؤسسات التي بإمكانها أن تستغني عن البشر في الحقيقة و لكنها لا تزال تعتقد أن المانيكان الحي أفضل من الصناعي و إلا لكنا نشاهد اليوم الأخبار يلقيها علينا آفاتار او مذيع كرتوني.. لكن قبل استخدام المانيكان الحي لا بد من تقليم أظفاره .
ثمة غسل دماغ منظم من خلال تمرير توجيهات غير مكتوبة حول هوية الموظفين المرغوب بهم: بلا مشاكل, متوسطي الذكاء, أدوات تنفيذ , طموحين بلا أخلاق.. لأن المستثمر لا يريد مشاكل , بل يريد خيول جر لعربات المشاريع الجاهزة و التي لا تحتاج لرأي أحد بل لمنفذين.
اليوم بات الC.V الذي تقدمه شهادة حية ضدك. لأنه يكشف إن كنت إنساناً حراً أم مغفلا يسير على السراط الذي ترسمه المؤسسات: حاصل على توفل, مشارك في العمل الطوعي, يحب البابا و الماما, يغسل وجهه بالصابونة و أسنانه قبل النوم و في الصباح قبل أن يشارك في كل ورشة عمل لا طائل منها إلا تلقيمه حثالة نتاج الفكر المؤسساتي المعاصر: تقوية الجسد الاداري, شحذ أسنان الجشع, أكل الكتف, ابتلاع الذل و تحويله الى نجاح من خلال افتراس إنسان آخر.
هل انتبه أحدكم الى رسالة التوصية التي تطلبها المؤسسات من رب العمل السابق؟ لأن المؤسسات تريد إحكام سلطتها فإنها تتعاون فيما بينها لخلق جسد مؤسساتي متكامل, يتنافس على السوق و لكنه يشترك في موقفه من الزبون و الموظف.
حرق نظام رسائل التوصية ضرورة لعالم العمل الحر.
هذا المقال تحية الى المذيعات اللواتي تركن محطة الجزيرة بدون رسائل توصية.
الجمل
التعليقات
عينك فنانة وقلمك ايضا
العمل و الفراغ
كل التحيه والمحبه
إضافة تعليق جديد