نبيل صالح: شهادة في محمود السيد
الجمل- نبيل صالح:* منذ شهرين شيعنا صديقنا الشاعر محمود السيد حتى بوابة دمشق التي دخلها قبل نصف قرن قادما من مصياف مثلما شيعنا ممدوح عدوان وهاني الراهب وسعدالله ونوس ومحمد الماغوط الذين أعطوا دمشق قلبهم وعمرهم وغادروها دون بدل تعويض.. محمود السيد صاحب "مونادا دمشق" و"السهروردي" و"مزامير ديك الجن" و"تتويج العشب" و"كتاب العشق".. الرجل الذي مزج بين اللغة الصوفية والفلسفة الألمانية في شعره فأنجز تجربة فريدة في الشعر العربي الحديث منذ سبعينات القرن الماضي.. محمود السيد الصوفي الذي اختار أن يعتزل الناس على طريقته: ينام نهارا ويستيقظ ليلا, يكتب ويعمل في إخراج الكتب حيث نذر حياته للحبر والورق وعاش بهما وفيهما حتى آخر نفس.. كان رجلا زاهدا في كل شيء ما عدا القهوة والشعر, استلم رئاسة تحرير جريدة الثورة في السبعينات ثم اعتذر عن المنصب بعد عدة أشهر لأنه لم يشأ أن يكتب افتتاحيات مدائحية، وفضّل أن يعود موظفا بسيطا في قسم الإخراج الفني حتى تقاعده... رئس تحرير مجلة ألف للكتابة الجديدة في أوائل التسعينات وكنا نحن وقودها: أنا وخالد خليفة وسحبان سواح ولقمان ديركي وأحمد معلا وأحمد اسكندر وأسامة إسبر ، فكانت "ألف" حجرا في مياه الثقافة الراكدة آنذاك، وقدمت العديد من الأسماء الأدبية الموجودة الآن على الساحة، وكان محمود سعيدا بها ولكن سعادته لم تستمر بعد توقف "ألف" لأسباب مالية فراح ينشر كتبا باسم دار ألف للكتابة الجديدة..
لم يكن محمود السيد نجما مشهورا ولكنه كان شاعر النخبة المثقفة، وعندما كان الشعراء العرب يزورون سورية كانوا يطلبون الالتقاء به، من محمد عفيفي مطر وحتى سمير الصايغ ، ذلك أن محمودا هزّ قصيدة النثر من أذنيها وتجاوز لعبة اللغة الصوفية في التقنيات الشعرية ليدخل في جوهر التصوف من بوابة الفلسفة وليس من طاقة الثرثرة السوريالية التي استغلها الشعراء الجدد.. فمحمود كان جادا كالصمت ومحترما كالموت ، لذلك خشيه جمهور التصفيق الحزبي في أمسيات المراكز التعبوية.. وكيف للعامة أن يلتقوا بشاعر لم يظهر في أمسية شعرية طوال حياته .. فقد كان محمود يحترم خصوصية الشعر ويرى أن يقرأه المرء وحده بهدوء وروية كما يقرأ النصوص المقدسة ..
كانت أحكام محمود صارمة أخلاقياً لذلك لم يكن لديه سوى حفنة من الأصدقاء. وبعكس الشعراء الهائمين بالأضواء لم يكن يحب الظهور والاستعراض على المنابر الخطابية على الرغم من قوة بلاغته وعمق شعريته.. وقبل دخوله في مشروع مجلة ألف كان علي فرزات قد زاره مع ممول بهدف إصدار مجلة، ولم يتفقا كما قال لي محمود فيما بعد، وعندما اتصل به سحبان سواح طالبا منه رئاسة تحرير مجلة ألف اعتذر محمود في المرة الأولى - وكنا وقتها جالسين في مكتب سحبان بالعدوي، أنا وخالد خليفة وأحمد اسكندرسليمان ولقمان ديركي – فقلت لسحبان اتصل به ثانية وقل له : نبيل صالح معنا ، ففعل سحبان ووافق محمود على الالتقاء معنا في بيته، ذلك أن محمود كان شخصا متوجسا ومتشددا في أحكامه، وبعد ذهاب المجموعة استبقاني محمود ليسألني عنهم فشجعته بحديثي عن تجاربهم في الكتابة الجديدة التي بشَّرت بها ألف فيما بعد، وهكذا تر سخت علاقتنا خلال أشهر التأسيس الأولى ليصبح اسمنا فيما بعد ( جماعة ألف) أسوة بجماعة (إخوان الصفا) والتسمية كانت من اختيار محمود الذي رأى أن مهمتنا كانت أبعد من مجرد إطلاق مجلة ثقافية وأن علينا أن نجمع حولنا كل خوارج الثقافة السورية والعربية لخلخلة الثقافة الأصولية المحافظة.. ومنذ صدور العدد الأول أُُربك كلاسيكيو الثقافة الوطنية بهؤلا المجانين الذين يرقصون على الورق عراة دونما خوف .. فقد أفردت ألف متسعاً لجرأتنا الفنية دونما حسيب أورقيب، فكنا نحررها ونخرجها في دمشق ونرسل البلاكات لطباعتها في بيروت وإعادة إدخالها إلى دمشق بواسطة مهربي المالبورو ليتم توزيعها بشكل شخصي على المشتركين حتى العدد السادس حيث وافق وزير الإعلام محمد سلمان على دخولها كمجلة عربية تصدر في قبرص ( كانت ألف تصدر بترخيص وهمي من قبرص حيث كان سحبان يملك صندوقا بريديا في نيقوسيا) .. في تلك الأيام تعلمنا ممارسة الديمقراطية في "ألف" فقد كنا جميعا رؤساء تحرير، وفي كل عدد كان أحدنا يكتب الافتتاحية، وكل نص ينشرفيها كان يجب أن يحصل على أصوات الأغلبية بما فيها نصوصنا التي كنا نقدم مسوداتها من دون اسم حتى لايكون هناك محاباة في التصويت، وكانت ترفض العديد منها لأسباب فنية بالدرجة الأولى .. لقد تقمصنا دور المبشرين بعالم جديد ليس فيه آباء ولا مريدين، لاشياطين ولا آلهة ، فقد كنا ندعو إلى إعادة تأليه الإنسان وأنسنة الرب العظيم لإغناء الحياة والفنون، وقد ذيل محمود اسم ألف بجملة النفري : " ياعبد الحروف كلها مرضى إلا الألف، أما ترى كل حرف مائل، أما ترى الألف قائما غير مائل . إنما المرض الميل للسقام فلا تمل " ..
بعد العدد السابع انتشرت أعداد المجلة في بعض الدول العربية وتعرفنا على مشاريع حداثوية لكتاب يشبهوننا ، من البحرين وحتى المغرب، حيث انتشرت لوثة " النص المفتوح " كالنار في الحصيد .. وقد احتفى محمود بإخراج العدد الأول حيث أعطاه هوية تشكيلية فريدة من نوعها في المطبوعات العربية، وساهم فيه رسامون مبدعون كطلال معلا ومحمد بدر حمدان وفائق دحدوح وخطوط جمال بوستان، ثم جاء الفنان أحمد معلا منذ العدد الرابع ليضيف لمسة جديدة إلى إخراج المجلة حيث رسم حبة قمح لها شكل الفرج على الغلاف الأمر الذي منع دخول العدد إلى مصر كما حجزت الرقابة بقية الأعداد معه ..
كنا جميعا نكتب ونخرج ونوزع دون أي مقابل مادي وكنا نجمع الاشتراكات ونعطيها إلى سحبان لشراء الورق والزنكوغراف والطباعة ، ومن طريف ما أذكر أن لقمان ديركي جمع اشتراكات سنوية من معارفه بحلب ولم يسلمها إلى صندوق المجلة، وعندما سألناه عنها قال أنه صرفها على ( ملذاته الشخصية ) واضطر سحبان وقتها إلى إرسال أعداد مجانية للمشتركين مضافا إليها أجرة البريد حفاظا على سمعة ألف، وقد ساهم ذلك في تأخير وضع اسم لقمان ضمن أمانة التحرير حتى العدد الرابع حيث وقفتُ إلى جانبه معتبرا أن صعلكته وقلة أمانته لاتنقص من مستوى إبداعه..
كنا نتوخى في النصوص المختارة، إلى جانب جودتها، أن تشي بموهبة تدل على تجربة يمكن تكريس كاتبها كاسم ينطلق من"الف" نحو مستقبل الكتابة الجديدة في العالم العربي، وأنا اليوم أقرأ للعديد من الأسماء الأدبية التي انطلقت من ألف وأثبتت صوابية رؤيتنا حينذاك .. لقد تعلمنا في ألف التشاركية والعمل الجماعي على الرغم من كثرة خلافاتنا وصخبنا الذي كنا ننهيه في صالة الرواق مع كأس بيرة وعشاء فقير.. كان العالم ملكنا ونحن أربابه الذين لايأبه لهم أحد سوى الهامشيون والمطرودون من جنان المؤسسات الثقافية الرسمية، فتجمع حولنا حرافيش الثقافة السورية وخوارجها .. كنا نرى العالم ونتصل به من خلال نوافذ ألف ، ومما أذكر أني كتبت إهداء على نسخة العدد الأول لحبيبتي: هذي ألفنا ممشوقة كقامتك فمن منا سيقرأ الآخر.. وبعد زواجنا رافقنا أفراد جماعة ألف إلى شاليهات ميرديان اللاذقية مع خطيباتهم وزوجاتهم وأولادهم.. فقد كنا جماعة وإخوة كما سمانا محمود حقا..
كان ذلك في بداية تسعينات القرن الماضي ، حيث توقفت ألف في السنة الثالثة ولكننا مازلنا نجتمع حتى اليوم ويكون حديث محمود حاضرا بيننا على الرغم من غيابه ..
الجمل
*نص الكلمة التي ألقيت اليوم في تأبين "محمود السيد" في المركز الثقافي بمصياف
إضافة تعليق جديد