شاعر فرنسي يخترع شاعرة انكليزية ويكتب باسمها

17-06-2010

شاعر فرنسي يخترع شاعرة انكليزية ويكتب باسمها

عندما نقرأ ديوان الشاعرة الإنكليزية كلارا إليوت «خنق بطيء» الصادر حديثاً لدى دار Al Dante الفرنسية لا يمكننا أن نعرف أن شخصية كلارا إليوت هي في الواقع من صنع خيال الشاعر الفرنسي سيلفان كورتو الذي يظهر اسمه على الغلاف كمترجم ومقدّم هذا الديوان القاتم. ومع ذلك، أو ربما بفضل ذلك، يفتننا هذا الديوان المشغول بطريقةٍ فريدة لا بد من التوقف عندها.

وتجدر الإشارة أولاً إلى أن سيلفان كورتو ليس مجرّد شاعر آخر أصدر ديواناً تحت اسمٍ مستعار أو تعمّد بهذه المناورة تضليل قارئه، كما فعل كثيرون قبله، بل ذهب أبعد من ذلك بكثير عبر ابتكاره بوسائل مختلفة، شخصية نسائية كاملة الأبعاد ومثيرة وُلدت عام 1955 في إحدى ضواحي لندن وتوفيت في باريس عام 1987 في بؤسٍ مطلق على أثر جرعة مفرطة من الهيرويين، شخصية لم تكتب سوى ديوانٍ شعري واحد، «خنقٌ بطيء»، نتعرّف إليها بعمقٍ وشغف من خلال قصائدها ولكن أيضاً وخصوصاً بفضل ملاحظات كورتو الكثيفة حولها وحول مسارها كمغنية في فرقة «كراس» الموسيقية الفوضوية بين عامَي 1979 و1983، الأمر الذي يفتح الكتابة الشعرية، وفكرة الديوان الشعري عموماً، على أبعادٍ جديدة ويمدّهما بإمكانات كانت محصورة من قبل في الميدان الروائي أو النقدي.

وفعلاً، أحد مصادر غنى هذا الكتاب هي المداخلات التي لا تحصى التي يسجّلها كورتو على قصائد الديوان، إن من خلال عددٍ كبيرٍ من الاستشهادات التي تتصدّر هذه القصائد أو تنساب داخلها، أو بواسطة الملاحظات التي تملأ أسفل صفحات الكتاب وتتناول بالتفصيل، وبمختلف تفرّعاته اللاحقة، التيار الموسيقي والشعري الفوضوي الذي عُرف تحت تسمية «بانك» (Punk)، وانتمت إليه الشابة إليوت. وكذلك تتناول شعراء فرنسيين طليعيين كثر مثل جورج باتاي، آلان جوفروا وآن ماري ألبياك وبرايان جيزين ومرسلين بليني (كي لا نسمّي غيرهم) شكلوا قراءات هذه الشابة ومراجعها. وهدف هذه الملاحظات، المهمة بذاتها، هو إسقاط إليوت داخل محيط ثقافي واجتماعي حقيقي (كابنة موظّف عادي وكموسيقية في أحياء باريس الفقيرة)، وبالتالي مدّها ببُعدٍ واقعي وتاريخي دقيق.

أما قصائد الديوان فتتميّز بسوداوية عالية تذكّرنا بكتابات الشاعرتين سارة كاين ودانييل كولوبير. وفي طريقة تسلسلها، تصوّر سير امرأةٍ بصيرةٍ وملعونة نحو هلاكها، فتشكّل بذلك نشيداً مرعباً ويائساً لموسيقى «البانك» والشعر والمخدرات والموت يندرج في خط الشاعرة الأميركية الطليعية كاتي أكِر. وفي حال أردنا الذهاب أبعد من ذلك في تحديدنا هذه القصائد، لقلنا إنها مزيج تقليدَين شعريين أنغلو سكسونيين: تقليد جيل «البيت» المفتوح في شكلٍ واسع على موسيقى الروك (خصوصاً جيم موريسون وجاك كيرواك)، وتقليد الشعر الموضوعاني (من باوند إلى سبايسر، مروراً بزوكاوسكي وريسنيكوف) لأن الشابة إليوت لم تكتب خيبة أملها بالعالم فقط بواسطة اللصق والتقطيع، بل أيضاً من خلال وصفٍ شعري دقيقٍ وبارد لهذا الشعور.

النصوص الأولى عدائية وممزَّقة تتحلى بمناخ ما بعد نهاية العالم، وبالتالي تتوافق مع سلوك مجموعات «البانك» ونظرتها إلى العالم. وهي تستحضر إلى أذهاننا كتاب «شعارات» للشاعرة الفوضوية ماريا سوداييفا. وفي هذه النصوص نستشف سديماً لن يلبث أن يتّسع ويكبر تدريجاً داخل الكتاب، ودائماً بطريقةٍ باردة تحت تأثير رومنطيقية تيار «الموجة الباردة» المنبثق من موسيقى «البانك»، لكنه يصبح بسرعة مرئياً لدى إدخال إليوت على قصائدها اللاحقة تقنيات غير لغوية، كالتشطيب والخربشة والتقطيع وصور من أفلام وقصائد مخفية خلف قضبان حديد، أو لدى تقسيم هذه النصوص في شكل أعمدة أو تفجيرها داخل فضاء الصفحة وبعثرة مفرداتها. ومن ذلك ينتج انطباعٌ بفوضى جارفة وجنونية (ميزة رئيسة في منشورات مجموعات «البانك») تكتسح مئتين وخمسين صفحة عرف الناشر كيف يخرجها بحجمٍ وطريقة تتنفّس فيهما مواد الكتاب الغزيرة والمختلفة.

المثير في هذه النصوص هو أنه كلما تفكّك شكلها تراجعت نبرتها العنيفة لمصلحة همسٍ رثائي مطعَّم باستشهاداتٍ غزيرة من كتابات ألبياك ورويي جورنو، وكلما أصبح السديم مرئياً فيها هدأت هذه النصوص وظهرت خلف عنف الأشكال ومضات شعرية صافية وشفافة تلمع كنصلٍ داخلنا قبل أن تتوارى. ففي إحدى القصائد الأخيرة التي تحمل عنوان «بلا نهاية»، تبدو شخصية الشاعرة وكأنها هجرت نهائياً الكتابة لمصلحة لا معنى عشوائياً. وهذا الغياب المبرمج والتدريجي للشاعرة هو ما يمنح الديوان كل قيمته.

أنطوان جوكي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...