أدونيس: القانون ديكتاتوراً...
I - حوار مع سيوران
- 1 -
المادّة هي أيضاً موسيقى، يا عزيزي سيوران(1). وإلاّ، ماذا نُسمي هدير الشلالات، وعصف الريح، والانهيارات الثلجية، وانفجار البراكين، ورجرجة الزلازل؟
(1) إشارة الى قول سيوران: «ما من شيءٍ إلا وهو موسيقى، باستثناء المادة». (المياه كلها بلون الغرق، ترجمة آدم فتحي، منشورات دار الجمل، 2003، ص 123).
وقد أسعدتني هذه الترجمة، خصوصاً أنّها جزءٌ من مشروع لترجمة الأعمال الكاملة لهذا المفكّر الصديق الذي كان يحبّ الشعر العربي كثيراً، وبالأخصّ شعر المعرّي.
- 2 -
إن صح، كما تقول أيّها الصديق، إن «الخلق كان الممارسة الأُولى لفعل التّخريب»، (المصدر نفسه، ص 127). أفلن يكن صحيحاً كذلك القولُ، إنّ التخريب هو الممارسة الأُولى لفعل التّكوين؟
- 3 -
عرفتُ حُبّاً خابَ، غير أنّه لم يخلق في نفسي أيّ ضوءٍ أو خيطٍ يصلني بسقراط. أظنّ أن حُبّاً يَخيبُ حقّاً ليس جديراً باسمه(2).
(2) تعليقاً على قول سيوران: «ان حبّاً يخيب هو محنةِ فلسفيّة تملك من الثراء ما يُتيح لها أن تخلقَ من حلاّقٍ نظيراً لسقراط» (المصدر نفسه، ص 139).
- 4 -
حسنٌ أن آدمَ كان شقيّاً في الحب. فذلك ما أتاحَ للإنسان أن يبدأ تاريخه الحقيقي، بعيداً عن الهبوط، وعن الجنّة والنار(3).
(3) يقول سيوران: «لو كان آدم سعيداً في الحبّ، لجنّبنا التّاريخ» (المصدر نفسه، ص 141).
II - تاريخ يتمزّق في جسد امرأة
في ألبيسولا سوبير يوري، المدينة الإيطالية الجميلة، قرب جنَوا، وفي بيتٍ تاريخيّ عريق - فِيللاًّ غافوتّي ديِلاّ روفيري، 12 حزيران الجاري 2010، مُثّلت قصيدتي المسرحيّة «تاريخٌ يتمزّق في جسد امرأة».
أخرج القصيدة الشاعر والروائي الإيطالي جوزيب كونتي، ومثلها، مع مرافقة موسيقيّة: كلارينيت، ساكس سوبرانو، ناي، وآلات أخرى، الممثّلة كارلا بيروليرو، والممثل إنريكو كامبَّاناتي.
كان الإخراج والتمثيل عاليين. وكان الحضورُ عالياً.
أذكّر بأنّني في هذه القصيدة - المسرحيّة، أعيد النَّظر في شخصيّة هاجر، زوجة ابرهيم، وأمّ اسماعيل، وجَدّةِ العرب، وفقاً للنصوص القديمة.
الخادمة، المطلّقة، المنفيّة، وفقاً لهذه النصوص ذاتها، تتحوّل في هذه القصيدة الى نموذجٍ أوّل للمرأة المتمرّدة: ترفضُ وضعَها، وشروط حياتها، وترفض التّعاليم التي تُشرِّعُ لنشوء هذا الوضع، وقيام هذه الشّروط.
في هذا التمرّد، تكتشف هاجر الأنوثة، ومعنى الحبّ، وتكتشفُ الجسدَ ورغباته، وتكتشفُ الحريَة، ومعنى العلاقة بالآخر.
كُتِبت هذه القصيدة ببنيةٍ فنّية تستلهمُ البنية الدّرامية اليونانيّة، ممّا يسمح لرؤيتها، دلالةً وشكلاً، أن تتجسّد في أبعادٍ اجتماعيّةٍ ثقافيّةٍ سياسيّة تُضيء اللحظة التّاريخية الراهنة في المجتمعات العربية - الإسلاميّة، وتضيء على نحوٍ خاص، وضع المرأة. وفي هذا كلّه ما يكشف عن المشكلات التي تحيط بحقوق الإنسان في هذه المجتمعات وحرياته، وما يُوحي بالطرق اللازمة، فكريّاً وعمليّاً، من أجل صيانة هذه الحقوق وهذه الحريّات، ومن أجل احترامها، والدّفاع عنها، وترسيخها.
III - «أطفال الحجارة» في ديار بكر
تتزايدُ أشكال الهجوم على «حقوق الإنسان» في العالم كلّه، باسِم الدّفاع عن «حقوق السّلطة». وتِبعاً لذلك تبدو الأنظمةُ الديموقراطيّة مريضةً بشكلٍ أو آخر، قليلاً أو كثيراً، بل تكادُ الديموقراطية في بلدانٍ كثيرةٍ أن تتحوّلَ الى مجرّد قناع.
*
قرأت في جريدة «لوموند» الفرنسية (السبت 19 حزيران الجاري 2010) تقريراً كتبه من اسطنبول غيّوم بيرّييه جاء فيه أن أحكام السجن الجائرة التي صدرت على الأطفال القاصرين «راشقي الحجارة» الذين شاركوا في تظاهرةٍ مؤيّدة للأكراد في ديار بكر، شرقي تركيا، «تقلق على نحوٍ خطيرٍ منظّمات الدّفاع عن حقوق الإنسان».
تتراوح أعمار هؤلاء الأطفال بين 12 و18 سنة. ويبلغ عددهم نحو أربعة آلاف. وبينهم من حكم عليه بالسّجن ثمانيةً وثلاثين عاماً.
يذكر التّقرير بعض الأسماء:
بيريفان، الفتاة التي لم تتجاوز الخامسة عشرة حكم عليها بالسجن ثماني سنوات، في السنة الماضية 2009، بحجة انتمائها الى «منظمة إرهابية»، دون أيّ دليل.
عثمان، 14 سنة، حكم عليه بالسجن أربع سنوات. وقبض عليه وهو في طريقه الى المدرسة.
بارانا، حكم عليه بالسّجن عشر سنوات. والبرهان على جرمه هو أنه كان يحمل في جيبه نصف ليمونة حامضة، لكي يتّقي الغاز المسيل للدموع.
*
منذ حوالى أسبوع (17 حزيران الجاري 2010) نشرت منظمة «آمنيستي أنترناسيونال» تقريراً حول هؤلاء الأطفال، طالبت فيه تركيا بالتوقف عن «محاكمة الأطفال استناداً الى قانون مكافحة الإرهاب». وانتقدت فيه بشدّةٍ انتهاكَ القوانين في أثناء توقيفهم وسجنهم ومحاكمتهم».
السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: كيف تدافع سلطة باسم الديموقراطيّة عن «أطفال الحجارة» في غزّة، مثلاً، وتسجن في الوقت نفسه «أطفال الحجارة» في ديار بكر؟
*
الكردي التركي هو، أوّلاً، ومن حيث المبدأ مواطن تركي. وكونه مُعارِضاً لا يحول بينه وبين حقوقه، بوصفه مواطِناً في دولته ذات النّطام الدّيموقراطيّ. (يبلغ عدد المواطنين الأكراد، المعلن، في تركيا خمسة عشر مليوناً).
ومن البداهة، ديموقراطياً، أن الحاكم في بلدٍ ديموقراطي لا يمثّل مؤيّديه، وحدهم، وإنما يمثل كذلك معارضيه، خصوصاً في كل ما يتعلّق بحقوقهم، حمايةً لها ودفاعاً عنها.
فما بال الديموقراطية تتحوّل الى «دكتاتورية قانونية»؟ وما بالُ «حقّ السُّلطة» يتغلَّب على «حقّ الإنسان»؟
وفي كل يومٍ، تسطع البراهين في أنحاء العالم الديموقراطي كلّه، على أن الديموقراطية التمثيلية، أصبحت تُمثّل كل شيء إلا الإنسان وحقوقه.
الحقّ ليس عِرقيّاً، وليس أكثريّاً ولا أقليّاً.
الحقّ إنسانيّ:
من يُنكر حق الآخر، فكأنّما يُنكر ذاته.
IV - أيّتها الكتب...
نكتب، نحن «أهل القلم»، كأنّنا نكتب بريشة هُدهدٍ في بلادٍ يَسكنها شخصٌ واحد: سليمان.
لا نفعل إلاّ التَحديق في الغبار الذي يتراكم على رأس الهدهد.
ولا نعرف كيف نجيب عن هذا السّؤال:
ماذا نفعلُ بهذا الغبار؟
- 2 -
جسدُ الأنثى في رأي المتديّن، يُولد ويَعيش ويموت شيطاناً، أو، في أحسن حال، ابناً للشيطان.
وهذا المتديّن نفسه لا يُحب هذا الجسد إلا بقدرِ ما يلدُ من الأبناء.
- 3 -
لنتأمل في الواقع العربيّ، لنتأمَّل جيّداً، وسوف نرى أن اللاوعيَ هو الطريقة الوحيدة لوعي هذا الواقع.
- 4 -
ما تقدّمينه، أيّتها الكتب، لا يكفي لكي نتعلَّم الصمت.
- 5 -
رملُ العالَم يتموّج بين شفتيّ:
أرجوكِ، يا حبيبتي، أن تقبّليني الآن.
أدونيس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد