«قصة حديقة الحيوان»: دراماتورجيا ناجحة يضعفها إخراج مشتت
يعتبر الكاتب والمسرحي: إدوارد ألبي، من أوائل الكتاب الأمريكيين الذين تنبهوا إلى واقع البنية الاجتماعية المفككة للعائلة الأمريكية، وعالجه في نصوصه المسرحية الأولى التي قاربت، من ناحية البناء الدرامي والأفكار المعالجة، ما عمل عليه أوغست ستريندبرغ، وكانت بداية هذه المرحلة مع مسرحية «من يخشى فيرجينيا وولف»، لكن سرعان ما انتقل ألبي إلى تعرية المجتمع الأمريكي بكافة جوانبه وكشف ما يعتريه من تفكك وانحطاط اجتماعي وغربة وتشظٍّ، وخير مثال على ذلك مسرحية «قصة حديقة الحيوان» التي قدمتها مؤخراً فرقة «باب» المسرحية في القاعة المتعددة الاستعمالات التابعة لدار الأسد للثقافة والفنون بدمشق، عندما حاول المخرج والممثل رأفت الزاقوت إسقاط المضامين والأفكار التي قدمها ألبي في نصه على واقع المجتمع السوري.
من الواضح أن النص الأصلي خضع إلى إعداد دارماتورجي طويل، عمل عليه كل من عبد الله الكفري ووائل قدور، في محاولة جاهدة لتطويع النص وتحليل تفاصيله الدقيقة وإعادة كتابته بآلية تتوافق مع دمشق 2010 الآن وهنا، بداية اعتمدت الدراماتورجيا على اللهجة العامية لما تخلقه من حالة تواصل وسهولة في إيصال الأفكار، ثم عمل كل من قدور والكفري على إيجاد أماكن بديلة لشوارع وأزقة نيويورك الأمريكية التي اختارها ألبي لتكون مسرحاً للأحداث حسب النص الأصلي، وقع اختيارهما على حديقة التجارة ومنطقة العدوي وما حولها ليكون مكاناً لأحداث النسخة المحلية، كما استبدلت أسماء شخصيتي العمل الوحيدتين، حيث تحول جيري إلى فادي «لعب الدور رأفت الزاقوت بالإضافة إلى تصديه لإخراج العمل» وبطرس إلى صلاح «لعب الدور الممثل زهير العمر بعد غيابه سنوات طويلة عن العروض المسرحية المحلية» وحاولت الدراماتورجيا تخليص النص الأصلي من التفاصيل والخصوصية التي يتمتع بها المجتمع الأمريكي والاستعاضة عنها بتفاصيل محلية ساعدت إلى حد ما في ملامسة بيئتنا المحلية وتحقيق التواصل مع الجمهور، لكن تبقى نهاية العرض هي نقطة الضعف والمأخذ السلبي على الإعداد الدراماتورجي، فهل من الممكن أن تقع جريمة قتل في مساء يوم جمعة في إحدى حدائق دمشق، ويملأ القاتل الدنيا صراخاً وعويلاً دون أن ينتبه إليه أحد؟ هذا الحدث يمكن أن يقع في حدائق نيويورك المعروف عنها مساحاتها الشاسعة وطريقة توزعها الجغرافي، لكن في دمشق ربما يكون مستهجناً بعض الشيء وغير منطقي أو مقبول، كان من الممكن أن يقدم المخرج حلاً إخراجياً يتناسب مع بيئتنا المحلية ويبقي على الحدث باعتباره مفصلاً أساسياً في العرض.
كتب ألبي «قصة حديقة الحيوان» في منتصف خمسينيات القرن الماضي وهي مسرحية من فصل واحد عالج فيها العلاقات الاجتماعية المتفسخة التي سادت المجتمع الأمريكي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وظهور قوى رأسمالية جديدة حولت الإنسان إلى مجرد رقم أو آلة ليس أكثر، وتقوم الفكرة الأساسية للمسرحية على معاينة العزلة الإنسانية من الداخل، والتنديد بأسلوب الحياة المعاصرة، وبطل العرض جيري/فادي شاب منعزل يعيش في ضواحي المدينة القذرة، يحاول الاتصال بالآخرين لكن محاولاته لا تكتمل لأسباب عدة، وإن كان هذا الاتصال يقتصر على الكلام والأحاديث العابرة فقط، يلتقي في إحدى حدائق دمشق مع بطرس/ صلاح، هذا الأخير يعمل مدققاً لغوياً في إحدى دور النشر المحلية، ويعاني عزلة من نوع مختلف على الرغم من أنه يعيش مع عائلته المكونة من زوجة وطفلتين ويمتلك بيتاً في إحدى أحياء مدينة دمشق الراقية ويربي حيوانات أليفة، ودون مقدمات أو مبرر، يبدأ فادي بسرد قصة حياته على صلاح الذي تتباين انفعالاته تجاه الموقف الذي يضعه به فادي وتحوله إلى مستمع لمعاناة إنسان لا يعرفه ولا يعنيه وبالكاد التقاه صدفة أثناء استمتاعه بنهار عطلته الذي يقضيه دائماً بالقراءة في نفس الحديقة وعلى المقعد ذاته، لكن الحوار الرتيب والممل والتفاصيل التي يسردها فادي عن جارته وكلبها، وعن مقتل والديه وخالته وعلاقاته الغرامية العابرة، كل هذا يقودنا إلى نهاية لم يكن أحد يتوقعها، حيث يخرج صلاح من شخصيته المهادنة المتصالحة مع واقعها وذاتها والمستكينة إلى درجة مبالغ بها، ليتحول إلى إنسان آخر، عندما يستفزه فادي مدمراً بذلك طبيعته الهادئة ليرجعه إلى المناطق البهيمية التي يحاول إخفائها في أعماقه، يتورط صلاح تدريجياً باللعبة التي أرداها فادي الذي يلقي نفسه على سكينه التي أعطاها لصلاح، ليتحول الأخير إلى قاتل بعد أن دخل في نوبة من الهستيريا والصراخ، هذا ما أراده فادي تحديداً، أن ينهي عزلته ويحطم جميع الحواجز التي تفصله عن الناس من حوله، كان من الممكن فعلاً أن ينهي فادي حياته بيديه وحيداً دون تدخل أحد، لكنه أراد لموته أن يتحول إلى طقس تضحية يشبه إلى درجة كبيرة جداً الطقوس الدينية، بدوره قدّم الممثل زهير العمر أداء مقنعاً عندما اعتمد في مجمل تفاصيل العرض على ترجمة انفعالاته الداخلية ومنولوجاته وحواراته التي كان من المفترض أن يتبادلها مع الشخصية الأخرى إلى إيحاءات بالوجه وطريقة الجلوس والتعامل مع الدخيل الذي اخترق عزلته، بعكس الزاقوت الذي انخفضت سوية أدائه تدريجياً مع تقدم العرض لعدة أسباب أهمها الطريقة التي أدى بها حواره المسرحي، الذي ابتعد عن العلاقة العضوية والمنطقية مع عناصر البناء الدرامي الأخرى ليتحول إلى لغو وكلمات لا جدوى منها، بل تسببت بعبء إضافي حمله للعرض برمته، أيضاً حركة الممثلين التي وضعها الزاقوت على خشبة المسرح كانت تحتاج إلى تنظيم وتأسيس فكري صحيح يخدم مقولة العرض وأهدافه، والتي من المفترض أن تصل المتلقي بشكل تدريجي يكتمل مع نهاية العرض المسرحي، ما شهدناه لم يتعد حركة في الفراغ أو مجرد تجسيد مباشر وحرفي للفعل وضروراته التي يقتضيها، حيث اعتمد على ثبات الشخصية وحركة الأخرى وصولاً إلى ذروة العرض عندها تتبدل منظومة الحركة بين الشخصيتين، في النتيجة لم يستثمر الزاقوت المجهود الاستثنائي لفريق العمل المشارك في العرض للخروج بعمل مسرحي ناجح على كافة المقاييس، من الدراماتورجيا الناجحة والسينوغرافيا الرشيقة والمدروسة بعناية التي وضعها الفنان الشاب وسام درويش، والمؤثرات الموسيقية التي عمل عليها الملحن والموسيقي محمد عثمان، لكن رغبة الزاقوت بالتصدي لإخراج العرض والعمل كممثل في الوقت نفسه، ساهمت في زيادة تشتت العرض الذي لم نجد فيه أي ملمح أو حلول إخراجية استثنائية جمالية، فالعمل الإخراجي يتطلب الإحاطة بكافة تفاصيل العرض وعناصره والبقاء على مسافة واحدة منها جميعاً، بما فيها الأداء التمثيلي بعكس ما قام به الزاقوت، عندما أراد أن يكون مخرجاً وممثلاً في الوقت ذاته.
أنس زرزر
إضافة تعليق جديد