ثنائيات هارولد بينتر تعيد طلبة "المعهد العالي للتمثل"إلى مبادئ الحلم
هل كان علينا أن ننتظر كل هذا الوقت حتى نرى بأم العين ماذا حدث لأهم مؤسسة ثقافية أكاديمية في سورية.
وهي تتحول من معهد عالي للفنون المسرحية إلى أكاديمية للدراما التلفزيونية؟.. هل كان ينبغي علينا حقاً أن نصدق كل ذلك الألم في عرض تخرج طلبة السنة الرابعة تمثيل، كل هذا التشاؤم.. كل هذا الهذيان عن واقع مرير للغاية، واقع طالب التمثيل الذي أصبح أمام أمرين أحلاهما مرُّ؟ المُرّ الأول هو ما استطاع المخرج «سامر عمران» أن يستخلصه من طلابه في مشروعه المعنون بـ «ذيل الطاووس» والذي استقى لوحاته الثماني من مسرحيات قصيرة للكاتب البريطاني الراحل هارولد بينتر (1930-2008) لقد تكلم الطلاب عبر أفلامهم التسجيلية القصيرة، تكلموا عن قبل وبعد الدخول إلى المعهد، لقد أشاروا إلى فداحة الخسائر والأرباح على حدٍ سواء، لمّحوا بخبث أحياناً، وبحرقة لا متناهية في أحايين أخرى إلى سنوات العمر المهدور..
كاميرا ذكية
ثم إن د.عمران ترك وجوه طلبته أمام كاميرا ذكية فضّاحة، كاميرا أرادها كمفاصل بصرية بين مشاهد بينتر القصيرة «مساء، النظام العالمي الجديد، على وجه الدقة، هذه مشكلتك، طالب وظيفة» وبين صمت جراحي لشخصيات الكاتب البريطاني الواقعة كضحايا لعالم خارجي عنيف وبلا أية شفقة، كأن المشرف هنا يريد أن يقول لطلابه قبل جمهور الحاضرين أن وجوه هؤلاء الشباب المقبلين لتوّهم على نيل درجة الإجازة في فن التمثيل المسرحي أصبحوا جاهزين لملامسة العتبة الأخطر في حياتهم الفنية، عتبة الاحتراف، وهم أي هؤلاء الشباب الستة عشر أصبحوا بمتناول أيدي شركات الإنتاج التلفزيوني، أمام ماكينة اسمها «الدراما السورية» تلك الماكينة التي استطاعت ليس فقط أن تخطفهم من المسرح المعطل في بلادهم، بل إن تحوّل معهدهم المسرحي بقدرة قادر إلى «لوكيشن» تلفزيوني بامتياز، إنهم اليوم وهم يقدمون أصعب كتابات «بينتر» الغريب القاسي الموجع على خشبة المسرحي السوري الراحل «ممدوح عدوان» يمفصلون الصمت البينتري، ويؤدون آخر عروضهم الاختبارية كطلاب تمثيل، لكنهم في الوقت ذاته يسخرون وبطريقة غير مباشرة من واقع الحال، إنهم على الأغلب لا يريدون مغادرة قاعات ومسارح وأبهاء معهدهم، كي لا يشعرون بفداحة العراء الذي ينتظرهم، ولا يمكن بحال من الأحوال أن نطبق عليهم المثل الروسي القائل: «من لم يتعلم الطيران علمه السقوط..!» لأنهم بالأصل لا يخشون من السقوط، ويتقنون الطيران جيداً، أعني أنه لا تعوزهم الموهبة، ولا الكفاءة، ومن شاهدهم سواء في «ذيل الطاووس» أو في «عميان ميترلنك» عام 2008 في سرير نهر بردى أو في ساحات حصين البحر سيعرف أن هؤلاء الشبان والشابات لا يخشون من مقارعة مديري شركات الإنتاج التلفزيوني، وشح المواسم المسرحية، ولا يأبهون لساعات الجلوس الطويلة في جزر الدوبلاج السورية لتدبر قوت عيشهم، ولا يبالون بأحجام «التيستات» الخلبية التي سيتعرضون لها من مخرجي السينما في بلد يشاهد أفلام غيره، فيما أفلامه الجيدة منها لا تعرض، والسيئة، وما أكثرها، تصيب القلب والروح بفالج مزدوج.
جهد استثنائي
إذاً ما الذي يخشى منه هؤلاء؟ ما هو «الفوكس» الرئيس الذي أراد لنا الدكتور سامر عمران مشاهدته على خشبة المسرح الإيطالي؟ ما هي العبرة هنا من لقاء عوالم بينتر بعوالم الطلبة وهواجسهم؟
لاشك أن أجواء الكاتب البريطاني استهوت مخرج ومصمم سينوغرافيا العرض الذي بذل جهداً استثنائياً هذه المرة في إيجاد صيغة إبداعية تقف من الجميع على مسافة واحدة، لاسيما أن عدد الطلاب «13 شاباً وثلاث شابات» كان من الصعوبة بمكان إيجاد نص يستوعبهم ويقدمهم للامتحان بفرص فرجة متساوية، بخاصة بعد الاشتغال على خيارات عدة أهمها عدة نصوص عالمية منها نص «جزيرة الماعز» للكاتب الايطالي ايكومبوتي، ونص /12 رجلاً غاضباً/ للكاتب الأميركي /ريجنالد روز/ إضافة إلى شغل دام قرابة الشهر على مجموعة نصوص لأوجين أونيل في ثيمة البحر، لكن كل هذا لم يحقق صيغة جيدة وشهية لطلبة عمران، ليتم التحول فيما بعد إلى مسرحيات بينتر القصيرة في ثنائيات رسخها صاحب مسرحية «الصمت 1969» بمحاذاة الثنائية الهيغلية، السيد والعبد، كعنوان مستمر لقصيدة بابلية حملت العنوان ذاته، هنا تلتقي عواطف الجمهور مع الدراما البينترية، لاسيما أن هذه الأخيرة لا تدخر جهداً في النيل من الاعتيادي والمتاح والممكن، إلى لغة صادمة في اقتصاديتها وغروتيسكها غريب الأطوار، إذ استطاع صاحب مسرحية (الغرفة 1957) أن يعكس بشدة سخريته من وحشية النظام العالمي الجديد، والذي عبر عن استيائه منها شخصياً بشكل مباشر في الكلمة التي ألقاها أثناء تسلمه لجائزة نوبل للآداب عام 2005 ، يتذكر الجميع كيف وصف هارولد الغزو الأمريكي على العراق، معبراً عن سخط عارم اتجاه المذابح الهمجية التي ارتكبتها تكنولوجيا القتل هناك.
مقاربة خفية
هذه المقاربة الخفية بين عالمي الشخصيات والممثلين لم تكن من قبيل المصادفة، بل كانت برأيي نموذجاً جديداً لمغامرة أرداها مشرف العرض، سواءً من جهة تحقيق ثنائياته، أو حتى من خلال تحقيق مسرحية-بصرية كأول مرة في تاريخ مشاريع تخرج طلاب قسم التمثيل، لذلك جاء منجم الصمت بمشهد افتتاحي لربا الحلبي وسامر إسماعيل كعتبة تخييلية أداها الشابان ببراعة عالية لزوجين يتطارحان الواجب الزوجي المعطل على سرير عامودي، لقد بدا كل شيء على وشك الوقوع في سينوغرافيا صممها الدكتور عمران جنباً لجنب مع الهاوية المحتملة، الهاوية الكلية لسقوط-طيران طالب التمثيل، ثم ليعود صاحب «المهاجران» ويختم بلوحة «مساء» ذاتها مع أريج خضور وحازم زيدان وبأداء عالي الجودة أيضاً، ناهياً العرض ببصرية لم تخف على الإطلاق تطيّرها الواضح من مستقبل خريجي دفعة 2010 حيث تظهر «أريج خضور» مرةً أخرى على شاشة العرض وهي تمشي بقدميها الحافيتين في صحراء لا متناهية من الملح، وكأن ذيل الطاووس بتنويعته هذه أراد أن يفصح عن مكنونات جماعية في فضاء عابق بالجفاف، فضاء أبيض مطبوخ بملح طعام صخري للغاية..
بطاقة العرض:
اسم العرض: ذيل الطاووس- مشروع تخرج السنة الرابعة قسم التمثيل 2009-2010
نصوص : هارولد بينتر ــ سينوغرافيا وإخراج: د. سامر عمران ــ مقاربة نصوص عن الإنكليزية: زياد عدوان
إضاءة: ماهر هربش ــ تمثيل الطلاب المرشحين لنيل درجة الإجازة: أريج خضور، سامر إسماعيل، سوزان سلمان، ربا الحلبي، حازم زيدان، حنا عيسى، مؤيد الخراط، يحيى هاشم، جوان الخضر، موسى فرح، محمد ديبو، وسام تلحوق، مجد مشرف، سومر العبد الله، علي الإبراهيم.
سامر محمد إسماعيل
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد