أمريكا والإسلام السياسي
على الرغم من وجود ما يشبه الإجماع في السياسة الخارجية الأميركية تجاه الحركات الإسلامية "المتطرفة" التي تتبنى العنف في التغيير السياسي، وبالتحديد الجماعات المرتبطة بالقاعدة، فإن "الإسلام المعتدل" يمثل "معضلة" حقيقية في رسم وتعريف السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط، وبالتحديد في الفترة الأخيرة التي شهدت ضغوطا أميركية لإصلاح الأوضاع السياسية في المنطقة العربية.
إذ تبرز أمام دوائر التفكير وصنع القرار في واشنطن المعادلة التاريخية التي تعمل النظم السياسية على تكريسها: "إما نحن (الحكومات العربية) وإما الإسلام السياسي".
الخيار السياسي الأميركي من فترة الحرب الباردة إلى أحداث سبتمبر/أيلول كان واضحا وهو تفضيل التحالف مع الحكومات العربية الصديقة والتغاضي عن انتهاكات حقوق الإنسان ورفض السماح للإسلام السياسي بالوصول إلى السلطة، خشية ما يهدد مصالح الولايات المتحدة (نموذج الثورة الإيرانية وخطابها، وحالة السودان سابقا تحالف البشير الترابي).
لكن هذا لم يمنع من تداخل المصالح في بعض الأوقات كما حدث في حالة "الجهاد الأفغاني" ضد الشيوعية، عندما التقى الإسلام السياسي والحكومات العربية والولايات المتحدة في خندق واحد ضد الاتحاد السوفياتي.
في عالم السياسة تنقلب الصداقات وتتبدل العلاقات وفقا للمصالح والمتغيرات، فبعد أحداث سبتمبر/أيلول ترسخ إدراك سياسي أميركي في مراكز الدراسات قبلت به الإدارة وجعلته محور رؤيتها للشرق الأوسط.
ويقوم هذا الإدراك على أن القاعدة نتاج للأزمات الداخلية العربية بامتياز، وأنها أي القاعدة بمثابة "الكرة الملتهبة" التي ألقت بها الحكومات العربية في وجه العالم الغربي، وبالتحديد الولايات المتحدة.
كما يقوم على أن السلاح الأنجع في مواجهة الإرهاب هو رمي الكرة مرة أخرى إلى الملعب العربي، والقيام بضغوط حقيقية من أجل تغيير الأوضاع، فإصلاح العالم العربي هو السلاح الأنجع في مواجهة الإرهاب.
وإذا أردنا الوقوف أمام النصوص والتصريحات الرسمية الأميركية التي تؤكد النتيجة السابقة فهي كثيرة، يعبر عنها ويوضحها مارتن إنديك عندما يقول: "إن خطأ واشنطن الوحيد في الشرق الأوسط هو دعم نظم فشلت على نحو مستمر في تلبية الاحتياجات الأساسية لشعوبها. إن هذه النظم فضلت التعامل مع مشكلة حرية التعبير عن الرأي السياسي في بلدانها عن طريق توجيه المعارضة ضدنا".
صحيح أن هناك ابتعادا أميركيا عن مناقشة "السياسة الأميركية تجاه إسرائيل"، لكن ما هو واضح أن الخطاب السياسي الأميركي تجاه الحكومات العربية أصبح ذا طابع ثوري انقلابي يدعو إلى "إصلاحات بنيوية".
وقد ظهر ذلك جليا في الوثائق الرسمية الأميركية التي تحدثت صراحة عن ضرورة التغيير الشامل في الشرق الأوسط.
فوثيقة الشراكة الشرق أوسطية تؤكد أن "أي معالجة للشرق الأوسط تتجاهل تخلفه السياسي والاقتصادي والتعليمي ستكون مبنية على رمال".
النتائج والخلاصات السابقة وجدت طريقها إلى التطبيق العملي، وبدأت الدعوات الأميركية للحكومات العربية تشتد إلى القيام بإصلاحات تمثل ضغطا وعبئا على هذه الحكومات، مما شجع المعارضة العربية بالفعل على التحرك والنشاط، فوجدت متنفسا في هذه الضغوط.
ومن الطبيعي أن تكون حركات "الإسلام السياسي" هي أحد المستفيدين الرئيسيين من فتح باب الإصلاح والتغيير، وظهر ذلك بوضوح في عراق "ما بعد صدام"، إذ تصدرت الحركات الإسلامية (الشيعية والسنية) المشهد السياسي العراقي، وفي مصر إذ تمكنت جماعة الإخوان المسلمين من تحقيق نتائج كبيرة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة على الرغم من التضييق والحظر.
ثم جاء فوز حماس في الانتخابات التشريعية وتشكيلها الحكومة ليؤكد أن الإسلاميين هم الوريث الأول -عن طريق صندوق الاقتراع- للنظم التي تريد واشنطن تغييرها.
لو كان الأمر بيد الإدارة الأميركية لكان التيار الليبرالي العربي بصيغته الأميركية هو المرشح المفضل والمطلوب أميركيا بدلا من الوضع السياسي الراهن، لكن هذا التيار أثبت أنه غير قادر بعد على منافسة الإسلاميين ونفوذهم الاجتماعي والسياسي.
في ذروة الضغوط الأميركية باتجاه الإصلاح كان جواب تيار عريض في الفكر السياسي الأميركي على التشكيك العربي في جدية هذه الضغوط يتلخص في نظرية "الفوضى البناءة"، التي تعني القبول بكل ما تأتي به الديمقراطية العربية حتى لو كان الإسلاميون هم البديل.
ووفقا لهذا التيار فإن الإسلاميين إذا وصلوا إلى السلطة سيكونون أمام خيارين: إما أن يتعاملوا بواقعية وعقلانية مع المشكلات والقضايا السياسية وهو ما يحقق المصالح الأميركية، وإما أن يثبتوا عجزهم وفشل شعاراتهم، ومن ثم تزول معضلة "البديل الإسلامي".
إلا أن تدهور الوضع في العراق وتوقف مسار العملية السلمية وانتصار حماس الكاسح وعودة المحافظين إلى السلطة في إيران، كل هذه التطورات دفعت مرة أخرى بالجدل حول الإسلام السياسي ومحصلة الضغوط الأميركية باتجاه الديمقراطية إلى الذروة في واشنطن.
وعاد الاتجاه المتشدد يطالب بالتخفيف من حدة الضغوط الأميركية باتجاه الديمقراطية، وبتجديد "الصفقة التاريخية" مع النظم العربية الحالية، وبعدم السماح للإسلاميين باستثمار الديمقراطية للصعود إلى الحكم وتهديد مصالح الولايات المتحدة.
وفي نفس الوقت هناك اتجاه ثالث يقع في الوسط بين من يطالبون بالضغط من أجل الديمقراطية ومن يطالبون بالعودة إلى السياسة الأميركية السابقة التي تعطي الأولوية للمصالح على قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ويرى هذا الاتجاه أهمية الوصول إلى ديمقراطية في العالم العربي والإسلامي، لكنه يدرك أن الطريق إلى الديمقراطية محفوف بالمخاطر والأزمات.
وحتى تتجنب الولايات المتحدة المفاجآت غير السارة، فإن عليها اختيار طريق "الإصلاح التدريجي" البعيد الأمد.
ويوضح رؤية هذا الاتجاه شبلي تلحمي في كتابه المخاطر، فبعد أن يحذر من خطورة الانتقال الجذري والسريع إلى الديمقراطية في دول عربية مما يؤدي إلى وصول حركات إسلامية، يدعو إلى "السعي لإحداث تغيير متدرج لا يمكن تحقيقه إلا عبر جهد تعاوني متبادل المنفعة مع الآخرين، بمن فيهم الحكومات الراغبة في المنطقة".
وفي سياق مواز لهذا الجدل وللمقاربات المتضاربة حول الإسلام السياسي، تمكن ملاحظة تراجع كبير في صيغة الخطاب الأميركي باتجاه الإصلاح العربي، وإن كان لا يوجد ما يشير إلى التخلي عن دعوة الإصلاح.
ويؤكد على هذه الملاحظة عدد من الخبراء والمتخصصين، إذ يرى لافرانشي أن "ما شهدته منطقة الشرق الأوسط في الفترة الأخيرة من صعود "حماس" إلى السلطة في انتخابات مدعومة أميركيا، وإدراك صعوبة بذر الديمقراطية في العراق دفعت بوش إلى إعادة النظر في خطاب الديمقراطية والتخفيف من الحماسة التي طبعت مواقفه الأولى.
هذا الحذر الذي يسم التحركات الأميركية حاليا سوف يستمر في المستقبل على الأقل حتى تستوعب الإدارة الأميركية المستجدات الطارئة في المنطقة وتقرر كيف تتعامل معها.
يتأسس الجدل السياسي الأميركي على مدارس واتجاهات فكرية لها حضورها ورؤيتها داخل مراكز الأبحاث والدراسات الأميركية تصنع المناظرات المختلفة التي تنشأ عنها المواقف الرسمية، وتدور هذه المناظرات حول أسئلة رئيسة يقع مفهوم "الإسلام المعتدل" أو الشريك الإسلامي في قلبها.
ويمكن التمييز في هذا السياق بين عدة مقاربات فكرية وسياسية متضاربة، المقاربة الأولى يتبناها التيار المتشدد وترفض القبول ابتداء بمفهوم الإسلام المعتدل، بينما المقاربة الثانية براغماتية تقرأ إلى العلاقة مع الإسلام السياسي من منظور المصالح الأميركية لا غير.
ولعل من المقاربات الأكثر مصداقية ودقة في تعريف السياسة الأميركية تجاه الإسلام السياسي دراسة روبرت ساتلوف السياسة الأميركية تجاه الظاهرة الإسلامية: مراجعة نظرية وتطبيقية (معهد الشرق الأدنى للدراسات 2000).
وعلى الرغم من مرور قرابة ستة أعوام على دراسة ساتلوف، وعلى الرغم من اتجاه ساتلوف نفسه اليميني المتشدد نحو الحركات الإسلامية، فإن دراسته تمثل المرجع الأبرز والأهم فيما كتب عن السياسة الأميركية تجاه الإسلام السياسي.
وقد تمكن ساتلوف من العبور إلى ما وراء التصريحات والمواقف السياسية المباشرة ليستنبط المعيار الحقيقي الذي يحكم هذه السياسة تجاه الإسلاميين، من خلال الإجابة عن سؤالين رئيسين: ما هو التعريف الأميركي الرسمي للإسلام السياسي؟ وهل هناك سياسة أميركية ثابتة في هذا المجال؟
ما يعنينا في هذا السياق هو البحث عن معيار "الإسلام المعتدل" وشروطه، فأدوارد جرجيان الذي يقدم في خطابه 1992 أول رؤية أميركية مباشرة حول الإسلام السياسي، يرى أن معركة الولايات المتحدة هي مع التطرف والتعصب والعنف والتهديد والإرهاب.
أما بليترو فيرى أن تعامل أميركا مع حركات الإسلام السياسي يجب أن يتم في سياقات مختلفة حسب تأثيرها على الولايات المتحدة، كقضايا: عملية السلام، ومحاربة الإرهاب، وتشجيع الأسواق المفتوحة، واحترام حقوق الإنسان.
أما نيومان فيرى أنه لا توجد سياسة أميركية تجاه الأديان وإنما تجاه المصالح القومية والدول.
ويخلص ساتلوف من تحليل الخطابات والتصريحات المتعددة إلى أنه لا توجد سياسة أميركية تجاه الإسلام السياسي، إنما تجاه الدول والمؤسسات والمصالح.
وعلى الرغم من أنه يضع "المصالح الأميركية" معيارا رئيسا في هذا السياق، فإنه يرى أن الحركات الإسلامية تمثل في مجموعها العام مصدر تهديد لهذه المصالح لأنهم -أي الإسلاميون- إن اختلفوا في الوسائل والغايات فإنهم يتفقون في هدف قيام الدولة الإسلامية.
ولا يقصر ساتلوف الإسلام السياسي على الحركات، بل يضيف إليه دولا تمثل تهديدا للولايات المتحدة كإيران والسودان.
وإذا استندنا إلى الواقع ومؤشراته فإن مقاربة ساتلوف هي الأقدر على تفسير وقراءة السياسة الخارجية الأميركية تجاه الإسلام السياسي بعيدا عن لغة الشعارات والخطابات النارية.
والمؤشرات من الواقع متعددة، فأميركا تقيم علاقات ودية وتحالفا وصداقة مع العديد من الحركات والدول الإسلامية في العالم، كما هو حاصل في تركيا (حزب العدالة والتنمية)، والعراق (الأحزاب الإسلامية الشيعية ونوعا ما الحزب الإسلامي السني)، وأفغانستان (القوى الإسلامية أو المجاهدون المعارضون لطالبان والقاعدة)، ويقاس على ذلك التحالف مع السعودية (التي تتخذ من الإسلام هوية رسمية للدولة وتشريعاتها).
في المقابل تدخل الولايات المتحدة في صراع وحروب مع الحركات والأحزاب والدول التي تعارض مصالحها كإيران وتنظيم القاعدة وحزب الله وحماس.
وقلما نعثر على موقف أميركي واضح من الأحزاب الإسلامية في المغرب، التي ليست على تماس مباشر فوري مع المصالح الأميركية.
وإذا قرأنا خريطة العلاقات الأميركية السابقة مع فعاليات الإسلام السياسي سنجد أن معيار الاعتدال والتطرف أو الموقف من الديمقراطية لا يمتلك وزنا حقيقيا في مواجهة معيار "المصلحة الأميركية"، على النقيض من دعاوى الأدبيات الأميركية التي تميز بين المعتدلين والمتطرفين من الإسلاميين.
محمد أبو رمان
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد