حنا مينه: أصابع اليد والإبداع
قلت، سابقاً، أنا لا املك يداً سحرية تقطف النجوم، وأصابعي التي هي أغصان شجرة مرجانية، منسية في قاع البحر الأحمر، لا تورق كزهور الثلج، وأضيف، اليوم، إن حروفي منذورة لدمي الذي نزف في مواقع خطواتي على درب الشقاء الطويل! نعم!.
درب الشقاء الطويل، الذي اباركه لأنه صاغني، من حبة رمل على شاطئ مهجور، إلى حجر منمنم، أو إلى حصاة مدورة، لكثرة ما تأنق الموج في تقبيلها، ليجعل منها حصاة متشكلة بريشة فنان، أو مستنيرة بمفردة شاعر، أو، ربما، مصاغة بازميل نحات ماهر.
هكذا كتب عليّ أن أشقى, وما همّ, الشقاء هو الذي صقل يراعتي, وما كنت, في إيما يوم من يفاعتي, أحلم بأن تكون لي يراعة, وتالياً كلمة مكتوبة, لأنني بالخطأ ولدت, وبالخطأ نشأت, وبالخطأ كتبت أيضاً, ومن يدري, فقد أموت بالخطأ أيضاً, وعندئذ تنغلق الدائرة السعيدة, شرط ألاّ يتأخر انغلاقها, فأمسي في التعساء, سأماً من حياة عشقتها ولمّا أزل.
لقد باركت عمري كلّه, أصابع اليد, فهي الإبداع في كل ألوانه, ولئن عجزت أصابعي أن تقطف النجوم, فإنها خطّت الحروف, والحرف, في دلالاته البهية, هو الذي أعطى النجمة بهاءها, إذاً غصن المرجان أورق وأثمر, ولمّا لم تكن لي حبيبة أهديها نجماً, أو أقدم لها غصن مرجان عندمي الثمر, فقد أضعت عمري, واختل توازني النفسي, ولم أجد سبيلاً إلى خلاص روحي المجرّحة بالألم, إلا بخربشة الحكايات على الورق, ولعلكم, أو بعضكم على الأقل, قرأ, مشكوراً, بعض حكاياتي, أو بعض قصصي, وهذا حسبي, فأنا قاص, وروائي, إذاً ما كان زعمي, وزعمكم أيضاً, صحيحاً في هذه التسمية, أما التنظير للقصة أو الرواية, فليس لي فيه شبر أو فتر, وإنما رأيٌ يُرى, وإلا لماذا أنا هنا؟ ولماذا أتكلم وقد كنت أرغب في السماع فقط؟ ولماذا أقتنص حق غيري في الحديث على (الرواية العربية وفن القص بين التراث والحداثة)!؟.
رأيي قرائي الكرام, بسيط جداً, مختصر جداً, ففن القص هو ابن زمانه, أو ابن تاريخه الاجتماعي, والتاريخ عصور, ولكل عصر فنه في هذا المجال, وهذا هو التحديث, المستند إلى التراث, أو إلى الموروث الشعبي. لقد أخذنا الكثير من هذا التراث, وهذا الموروث, وأعطينا ما أخذنا بشكل آخر, في الرواية والقصة والمسرح والسينما والتلفزة. أخذناه خامة, أو نطفة, أو ملاحظة, أو حكاية, وسبكنا, كل ذلك, سبكاً جديداً, حديثاً, له من مرحلته التاريخية طابع الحداثة, وحسناً فعلنا, لأن غيرنا, في العالم, صنع نفس صنيعنا, فكانت حداثته غير منبتة الجذور عن تراثه, موروثه, بيئته, تاريخه, لذلك اسمح لنفسي بالقول: إننا في الموقع الصح.
إن كليلة ودمنة, وألف ليلة وليلة, وبخلاء الجاحظ, وغيرها وغيرها, قد أثرت إبداعنا, بما تناولناه منها, وأخرجناه مخرجاً فنياً, يلائم زمننا, وهذا, في المآل, هو التحديث والحداثة. والشأن ذاته مع الموروث الشعبي, فقد أفدت, أنا نفسي, الكثير من هذا الموروث, واتكأت عليه, سواء في قصص والدي الذي منه تعلمت القص, أو من حكايات عمال المرفأ, حين كنت حمالاً في المرفأ, أو حكايات البحارة حين كنت, في يفاعتي, بحاراً على المراكب الشراعية, أو من السجناء حين كنت, زمن الانتداب الفرنسي, وبعده ايضاً, أدخل السجن لأخرج منه, ثم أعود إليه, مكافحاً في سبيل التحرر والحرية والعدالة الاجتماعية, وهذا واضح في أعمالي الأدبية كلها, أو أكثرها على الأقل.
سؤال أخير: هل قلت جديداً؟ لا! وعن قناعة تامة, فأنا لا أحب التواضع والغرور كليهما, وقد فكرت ملياً في عنوان الندوة, ورأيت فيه, بعد شيء من التفكير, هذا الذي سمعتموه, ولا زيادة لدي, فاعذروني, والعذر من بعض الشيم.
تونس الخضراء يقال, أعترف.. تونسكم خضراء بكل معاني الخضرة, وبعض هذا الاخضرار في قلوبكم الكريمة, فيئاً كان, وفيئاً يبقى, ويداً للثقافة والحضارة, تُبسط ولا تُقبض, فالشكر لكم على هذا الفيء الثقافي الذي به نستظل, ما دامت الثقافة, في هذا الزمن, هي المعوّل عليها, بعد أن فقد الخطاب السياسي صدقيته, وتقدمت الثقافة إلى مركز الصدارة.
حنا مينه
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد