حنا مينه: جسد الرواية

12-09-2014

حنا مينه: جسد الرواية

تراكم الدراسات النقدية التي تناولت تجربة حنا مينه (1924) الروائية، لم يمنع نديم الوزه من فحص نصوص صاحب «الشراع والعاصفة» من ضفةٍ مغايرة تعمل على سكتين. الأولى تذهب إلى فحص هذه النصوص وفقاً لأطروحة ما بعد الحداثة، والثانية اكتشاف أحوال الجسد في تمثّلاته الروائية، بعيداً من الإطار الإيديولوجي الذي كرّسه النقد في قراءة أعمال هذا الروائي السوري الرائد.
في كتابه «انتصار الجسد وهزيمته في روايات حنا مينه» (دار بيرم- تونس)، يحرث الناقد السوري في تضاريس الجسد عبر ثلاث طبقات: «وعي الجسد وانتصاره»، و»خيانة الجسد وهزيمته»، و»احتضار الجسد وعطالته». يعيد أسباب استعادة أعمال صاحب «حكاية بحّار» إلى تدارك مفاصل أساسية في هذه التجربة المتفرّدة، أهملها النقد بسطوة الاستبداد الإيديولوجي الذي أغلق الباب على تطلعات شخوص هذه الروايات، ووضعها في إطار ضيّق يتسق مع رؤية محدودة للكون الروائي.

لا ينكر الوزه قابلية هذه الروايات على الانخراط في أوهام الحداثة وأنماطها اليسارية، لكنه في المقابل يوضح أن هذه الاحتمالات «صاغها وعي الرغبة أكثر مما أرادها وعي الروائي الحقيقي». هذا الوعي منفتح على رحابة إنسانية وكونية، وتوق إلى العدالة الفردية، و»تحقيق هوى الذات» أولاً. من هنا، تبرز سمة «التمرّد» التي يمتاز بها أبطال رواياته لتتجاوز التمرّد على الأب إلى التمرّد على استبداد السلطة كمحصلة لتجربة العيش أولاً، ما حرّر روايات حنا مينه من «ميكانيكية الرؤية اليسارية» مستشرفاً «الأفق المابعد حداثوي للرواية العربية».
قد تبدو هذه الاستنتاجات ضرباً من الشطط النقدي، لكن خلال حفره في متن النصوص، يجد المؤلف ما يبرر استنتاجاته، خصوصاً في ما يتعلّق بإعلاء شأن الذات وتمجيدها بوصفها ثيمة ما بعد حداثية، وهذا ما نجده لدى «الطروسي» في «الشراع والعاصفة»، أو لدى «مفيد الوحش» في «نهاية رجل شجاع»، و»زكريا المرسنلي» في «الياطر»، بالإضافة إلى الاشتغال على الجسد في وعيه وانتصاره، إلى هزيمته واحتضاره، في طبقات تتمازج خلالها الشهوانية بالطهرانية، فتنهض هذه التمثلات الجسدية على «وعي مادي جدلي للوجود، لا يلبث أن يخترقه بأفق ما بعد حداثوي». هكذا ينهي «مفيد الوحش» حياته برصاصة في دماغه، بعد بتر ساقيه بتأثير مرض السكري. وإذا بالجسد القوي يُهزم في غياب الوعي الذاتي، وتعيش «رندة» في «حمامة زرقاء في السحب» تحولات جسدها المحتضر بمرض السرطان، ويفقد «زكريا المرسنلي» جنّته، ما إن يغادر حضن «شكيبة»، لكن من دون أبعاد ميثيولوجية لمعنى الجنّة. بين هزائم الجسد وانتصاراته، تنبثق أفعال شخصيات صاحب «المصابيح الزرق» لتضيء رحابتها الروحية والحسيّة، وصراعها الحاد لتحقيق ذواتها، مهما كان حجم العطب الذي يحيق بمصائرها، أو قوة العطالة المباغتة التي تحدّ تطلعاتها إلى أفق أوسع. لكن هل مناوشة ثيمة الجسد تكفي وحدها لوضع أعمال مينه في باب ما بعد الحداثة، خصوصاً أن هذه الأعمال ــ في قراءة موازية- تقف على النقيض لانشغالها الواضح في السرديات الكبرى والحبكة الحكائية الكلاسيكية المتينة، والوقوع في أسر الرومانسية؟ يجيب الوزه «قد لا تستجيب روايات حنا مينه، لإشكاليات المثقف النخبوي، واغترابه، وفصاميته بسبب اغتراب وعي هذا المثقف أساساً، واستيراده لهذا الوعي، وربما، هنا، تكمن عبقرية حنا مينه، في تمثّله لروح العصر، وتطوراته الكونية، وما يحتمله ذلك من مواجهات مع الذات ومع الآخر». يشير في موقعٍ آخر إلى استجابة هذه الروايات لأسئلة ما بعد الحداثة لجهة بلاغة اللغة ومفاهيم التفكيك والتحليل، واختبار الذات، لكنه آثر أن يتناول صورة الجسد فقط بوصفه مركز فكر ما بعد الحداثة «وما بقية إشكالياتها إلا امتداد لإشكاليته».
لعل أهمية هذه القراءة تكمن في جرأتها على نسف القراءات السابقة لأدب حنا مينه، وغربلة هذه القراءات من الرطانة الايديولوجية الصارمة. لطالما لاحقت هذه النصوص شبهة «الواقعية الاشتراكية»، بالإضافة إلى لقب «روائي البحر»، فيما تسعى هذه القراءة إلى فحص ما يحدث فوق اليابسة لبشر يجدون أنفسهم في مواجهة العواصف والأنواء والرغبات، تحركهم شهوة الحياة وغريزة فطرية في اجتراح مآثر شخصية، غالباً ما تنتهي بموتٍ شجاع، من دون أن ننفي عنها، في بعض المواضع القوالب الجاهزة لإلحاقها قسراً، في سرب ما بعد الحداثة. ذلك أن حنا مينه حكواتي أكثر منه روائياً تجريبياً.

خليل صويلح

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...