ملتقى النحت الدولي في قلعة دمشق: أنسنة الحجر وتأنيث الرخام
تجربة جديدة وجريئة يعيشها الفن في سوريا، فبعد ملتقى النحت على الخشب عام 2008، تستضيف دمشق حالياً ملتقى النحت الدولي الثاني بمشاركة عشرة نحاتين عالميين هم: من إيطاليا ريمو بيلتي، من اوستراليا فرانكو داجا، من أوكرانيا ميخايلو ليفتيشينكو، من بيلاروسيا فيكتور كوباش، من الإكوادور ماريو تابيا، من سويسرا ادريانو كايرلا، من اسبانيا ناندو الفريز، من فيتنام هوانغ فان هوينه، ومن سوريا أكثم عبد الحميد ومحمد بعجانو.
يحتفي أولئك الفنانون بالمرأة كعنوان، لتظهر أمامنا المرأة الأولى عشتار سفيرة النحت السوري القديم، ترقص مع خليلاتها من نساء الثقافات العالمية المختلفة عبر اللون الواقعي الذي يطبع كتل الرخام المتناثرة في باحة قلعة دمشق ضمن معهد الفنون التطبيقية، لتكون فرصة احتكاك مباشر مع التاريخ، الى جوار الجدران القديمة. يصدح جسد المرأة عارياً مشرّحاً على مدى الرخام، كلٌّ يصورها بحسب مرجعياته البصرية والجمالية، وتؤثر الجغرافيا في رؤية كل فنان، لتصبح المنحوتات تزاوجاً روحياً بين المخيلة والواقع، يتلقفها الزوار من مختلف أطياف المجتمع السوري كثقافة بصرية حرة تتناول أسمى كائنات الخصوبة والجمال في الطبيعة – المرأة، التي تحمل في كينونتها المادية والداخلية قيماً فنية إنسانية تنبع من فيض الأنوثة والأمومة والعطاء والحب.
اللافت في الأعمال، حضور الجانب الواقعي في التعبير عن توصيفات الفنانين النفسية والاجتماعية والفنية التي وضعت تمثال المرأة كأيقونة تحاكي الأسطورة والذات الإنسانية، لتظهر قواها المثيرة بحواف رمزية على أطراف الجسد الحنون الذي يتحول مقالع رخام شهية تخلط جدية الشمس مع مزاجية الرخام.
الإلهة عشتار
في منحوتة السوري أكثم عبد الحميد، تحضر وجوه النسوة اللائي ينتمين إلى ريف الساحل السوري، بقسمات وجوههن الصارمة واللطيفة التعبير، عبر جمال أجسادهن البحرية وخطوطها المنحنية التي تجاري الانحناءات الموجود في الطبيعة وجذوع الأشجار. ربما هو يمزج بين الطبيعة والمرأة عشتار، إلهة الخصوبة عند السوريين، متوافقاً مع رؤية الأوكراني ميخايلو ليفتيشينكو، حيث تحضر المرأة بدهشتها الأولى، لحظة بدء التكوين الإنساني. وقفتها عاقدة اليدين منتظرة الحياة بملامح مريم العذراء، تمثل جانباً من أساطير أوكرانية تتحدث عن امرأة ينحتها كل الفنانين لتكون أيقونة للكنائس تمثل الآلهة. هنا نرى أن المرأة أمّ لكل شيء. شعرية ما يقدمه ليفتيشنكو وعبد الحميد، تنتمي إلى تلك الأمومة بعيداً من دلالاتها الفلسفية وقريباً من تصويرها البصري الحقيقي كأمّ من لحم ودم، أمّ لكل القلوب الطرية، حيثا يؤكد النحات الأوكراني أن اندحاره عن الواقع الأوروبي الذي ينظر إلى المرأة نظرية جنسية وحسب، يجيء من كونه يحلم بإيصال رسالة التوازن عبر فنه بين الجنس المادي والإحساس الجمالي به بلغة الرخام.
نساء تدمر
يتميز الورك العريض لدى البيلاروسي فيكتور كوباش بانحناء، كقوس من السحب الممتلئة بالرغبات، لتبدو في نظرتها الى الخلف كأنها تنادي السماء في حضورها الأجمل. اعتمد كوباش على ماكيت لمنحوتة صغيرة جلبها معه لينقل نموها إلى حجم أكبر بكثير، مظهراً التغيرات المكانية التي أثّرت على ولادتها الأولى في بلاده، فنشاهد امرأة من توحد طيف دمشقي مع أنثى لاهية تجر شلالات شعرها البدوي الطويل وهي لا تزال تعبث بالماضي عبر يدها اليسرى، يد جهة القلب المقطوع مثل الذكريات. حاول كوباش إدخال الجوانب المحجوبة والظاهرة من الانطباعات التي سجلتها ذاكرته من وجه المحيط الجديد الذي صادفه في سوريا، حيث زار مع باقي فناني الملتقى أماكن أثرية وتاريخية منوعة منها مدينة تدمر الأثرية التي شكلت لديه خلفية أسطورية لنساء تدمر، وهذا ما رأيناه في عمله الذي يتقاطع بقوة مع تلك التماثيل القديمة لجاريات زنوبيا ملكة تدمر.
في الضفة الأخرى نشاهد الاوسترالي فرانكو داجا وقد استوحى من تدمر راقصة ممتلئة كبحيرة بجع شهية، وقد رفعت ذراعها بجنون فوق رأسها، كناية عن الحرارة التي يتصورها الفنان ترقص ضمن دوائرها. هكذا نشعر أن المرأة تتحول في منحوتة داجا لتكون سمكة أو طائرة أو حورية بحر. كل ما في هذا العالم يخضع لنظرية التطوير، كما يقول، وامرأة داجا في تفاصيلها المتشكلة من قساوة الصحراء حيث تدمر ومن قوة الماء حيث البحر المتوسط، تظهر كأنها مدن تطفح بالرخام والنبيذ.
جغرافيا المرأة
يتميز الفيتنامي هوانغ فان هوينه بالدخول إلى الأماكن الأكثر ضموراً في جسد الأنثى حيث يتقصد إظهارها على نحو منحن، لتكون تلك المفاتن بمثابة هوية أنثوية خاصة تجعل نحولة هذا الجسد مدهشة ومختلفة عن باقي الأعمال. يظهر تأثر الفيتنامي بالنحت الإيطالي واضحاً من حيث التجسيد الأولي والتكتيك الفني لكتلة الرخام، حيث يحرص فان هوينه على التمسك بمكاشفات جريئة لها علاقة بدراسته فن التشريح وجغرافيا المرأة منذ بداياته الأولى ومن ثم دأبه على ممارسة هذا الفن خلال تجربته. يتحدثعن أثر المكان في منحوتته هذه، على رغم عدم اشتغاله على الماكيت أو النموذج الحرفي، لكن مشاهداته اليومية ولقاءاته مع الناس في دمشق تركت أثرها في تفاصيل منحوتته، الأمر الذي يسميه حرية وسحراً لا يحاول أن يوقف يديه عن التوغل في جسد منحوتته المنسابة بأمومة.
عمر الشيخ
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد