غسان الرفاعي: العوازل والوشاة
-1-اجتاحت باريس و(137) مدينة فرنسية أخرى، أول أمس، السبت تظاهرات ضخمة شاركت فيها حشود هائلة ضد (الكراهية والعنصرية).
للتنديد بنظام ساركوزي (الذي لطخ العلم الفرنسي بالعار) –كما قال رئيس وزراء فرنسا الأسبق دومينيك دوفيلبان- وكان اللافت تضامن كل الأحزاب اليسارية (الحزب الاشتراكي، الحزب الشيوعي، حزب الخضر) وكل النقابات العمالية والفلاحية ومئة مؤسسة ورابطة اجتماعية وثقافية تحت شعار: (إن دور رجال السياسة هو أن يغلقوا أفواههم حين يتكلم الشارع!).
بعض المفكرين الجدد الذين أفرزتهم التطورات (المذهلة) التي اجتاحت العالم أخيراً وعصفت بالمجتمع الفرنسي خاصة، طرحوا رؤية جديدة هي أقرب إلى (الفنتازيا) في انتظار أن تستقر الأمور على خيارات جديدة. وكان هناك اجتماع بهم في ندوة لا تخلو من (إمتاع ومؤانسة). المفاجأة الكبرى أن باسكال بروكنر الذي أصدر كتاباً مثيراً حول (إغراء البراءة) استخدم مفردات مستمدة من قصص العشق العربية لتحليل الأزمة السياسية في فرنسا والعالم.
-2-
في قصص العشق العربية شخصان متطفلان مريبان لا علاقة لهما بالعشق ولكنهما أساسيان فيه: العزول والواشي. إنهما يمثلان موقعين بارزين في قصائد الغزل وأغاني الحب، أكثر أهمية في بعض الأحيان من بطلي العشق. إذ ينحصر دور (العزول) على إظهار ألمه (المجاني) كلما نمي إليه ان اثنين يتحابان، ويملأ الدنيا ضجيجاً، مع أنه ليس طرفاً في القصة ولا يطمح إلى ان يحل مكان العاشقين وكل ما في الأمر أنه (مأزوم) لأنه لا يطيق أن تتبرعم قصة حب وراء ظهره ولا يتورع عن إلحاق الأذى الموجع بالعاشقين أو بنفسه دون الحصول على أية فائدة شخصية. أما الواشي فهو أكثر خسة، إذ ينصب نفسه (مخبراً عاطفياً) بالمجان وينقل أخباراً عن تطور العلاقة بين العاشقين وينشرها على الملأ، بعد إضافة تفاصيل وتعليقات من نسج الخيال، ولا يرتاح إلا بعد أن تسوء العلاقة بين العاشقين، ولا يعود إليه اتزانه الداخلي إلا بعد أن يتم الفراق النهائي بينهما. ولكن قصص الحب العربية بخيلة في التحدث عن (الغريم) –كما يزعم بروكنر- الذي ينافس العاشق على معشوقته ويتحين الفرص للتخلص منه في مبارزة أو مجابهة أو معركة، واللافت أن قصص الحب العربية حافلة (بالكرم) الذي يتحلى به الأمير العاشق في آخر لحظة، حين يتخلى عن معشوقته (ويهديها إلى منافسه).
-3-
وينتعل بروكنر هذه العلاقة المتشابكة بين العاشقين و(العزول) والواشي والغريم إلى المسرح السياسي ويقدم لنا (فانتازيا) يحاول من خلالها أن يسخر من الديمقراطية الليبرالية الغربية، بل من النشاط السياسي في كل زمان ومكان. هناك قصة حب بين الحاكم والشعب لا تختلف في صعودها وهبوطها، في توهجها وبرودتها عن قصة حب عادية بين رجل وامرأة. يكتب بروكنر: (قد يكون العاشق سادياً أو مازوشياً أو فتيشياً أو عنيناً ولكن المعشوق –أي الشعب- قد يتمنع، يكر ويفر، يقبل ويدبر، وقد يذوب وجداً أو قد يصعّر خده وردود أفعاله تتبلور في تناغم أو تعاند مع شخصية العاشق).
في البدء يكون وفياً، ثم تراوده فكرة (الخيانة) ولا يتردد في الاستماع إلى إغراءات المنافسين ويستنجد بروكنر بالمتطفلين الشائعين في قصص الحب العربية ويفضل الحديث عنهما بلغة الجمع لا المفرد: العزال هم رؤساء الأحزاب الناشطة في الساحة، والوشاة هم الإعلاميون الذين يتنقلون من العاشق إلى المعشوق يلفقون وينافقون دون توقف، والغريم هو المنافس الذي ينجح في الانتخابات وينقض على العاشق ويطرده ويحل محله، والأمر المشترك بين هذه الشخصيات كلها هو إدمانها على الشكوى.
يكتب بروكنر: (الشكوى هي أضعف أشكال التمرد والثورة: الحاكم العاشق يشكو من أنه غير مفهوم وأنه مظلوم ومفترى عليه، والشعب المعشوق يشكو من انه محروم من حقوقه وحرياته، والعوازل يشكون من عدم التعامل معهم بجدية، والوشاة يشكون من أنهم لا يمنحون الحرية الكافية لإشباع حبهم للنميمة والتجريح، أما الغريم فهو يشكو من أنه لم يحصل على الصلاحيات الضرورية لإسعاد شعبه المعشوق فور انتصاره على الحاكم (العاشق) ويستشهد بروكنر بقول مأثور للروائي سيلين (نعم الكل مذنبون باستثنائي..).
وفي نهاية الندوة يطرح أحدهم هذا السؤال على بروكنر: (وأين موقع الكاتب من هذه المسرحية؟).
ويصمت بروكنر ويقول وهو لا يخفي خجله: (موقع ذي القرنين!)
-4-
وشعرت بالإثم وأنا أتابع هذه (الفنتازيا الفكرية الجديدة)! ممكن أن نتحمل هذا الترف الباذخ في الوقت الذي تحاك فيه المؤامرات لقضم الأرض العربية شبراً بعد شبر في احتفالات تفاوضية مضاءة بالنيون ومعروضة على شاشات التلفزيون؟ في وقت يذبح فيه الشعب الأفغاني والباكستاني من الوريد إلى الوريد؟ في الوقت الذي يفاخر المسؤولون العرب بقبولهم (التسويات الحضارية) ويعربد الإسرائيليون في مطالبهم (التاريخية المشروعة) وبحقهم في اغتصاب شعب كريم مسالم؟
-5-
وحينما سدت الجماهير الغاضبة ساحة (الريبوبليك) في باريس وهي تهتف غاضبة: (ابق حيث أنت في مزرعة كارلا يا ساركوزي ولا تعد إلى قصر الاليزيه).
تولد عندي الشعور في لحظة من التوهج اننا جميعاً أو على امتداد الوطن العربي، مدجنون، متصابون، لحوم مضغوطة في علب سردين، شفاه دبقة لا تنفرج إلا بترخيص، وقصبات مجوفة بلا نغم، وقلوب مترهلة مثقوبة في الوسط. اننا مصابون بالبدانة والشحم يغزونا ويفتض أنفاسنا، انه شحم روحي، ودبق نفسي، وتورم غير طبيعي في الروح، في الفكر، بدانة هي مزيج من الاغتراب والسأم والخوف والوحدة والغش. ما نحتاج إليه على عجل هو كرنفال من الألفاظ الجامحة، إلى (بازار) من الأفكار الغاضبة، إلى ديالوج بربري. لا يخشى الافتضاح ولا يهاب التنكيل.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد