عن أزمة الموسيقى العربية
في عصر التغيّرات العاصفة، تواجه الموسيقى العربية أزمةً وثيقة الارتباط بأزمة الثقافة العربية المعاصرة، وعلاقتها بالزمن. ففيما نبدو لاهثين وراء أيّ جديد وافد، وبينما نجتهد لنكون مقلّدين حاذقين، نعيش حالة من الانفصام، والتشوّش، والتأرجح غير الواعي بين الماضي والمستقبل.
ميولٌ وتجارب لم تؤدِّ إلى قفزة موسيقية عربية نوعية إذ لم تأتِ في سياقٍ تراكمي، ولم تُبنَ لتدوم. رغم وجود استثناءات معروفة، إلاّ أنّ عدداً كبيراً من النتاجات الموسيقية الصادرة حديثاً يكشف عن زحفٍ إلى حاضرٍ غير قابل للتصالح مع الأمس، ومع البيئة الجغرافية والثقافية الحاضنة لهذه المحاولات. كأنّ المستحدث بلا إطارٍ زمني ومكاني، وذلك بحجّة أنّ «الموسيقى لغة كونية»، و«لا بأس في أن نعزلها عن سياقاتها، ونتركها معلّقة خارج الزمان والمكان لتؤدّي وظيفتها الخالصة»... وما إلى هنالك من تبريرات واهية وواهمة، وإن كانت تحمل، على المستوى النظري، شيئاً من الصحّة. إلى جانب هذا التيّار الشبابي الغارق في عزلته ونخبويّته تحت راية «التجريب الطليعي»، والمندفع إلى المستقبل بلا حدود وأسس، ثمّة تيّار آخر فقد القدرة على التأثّر والتأثير نتيجة دورانه في فلك الماضي.
ما الهدف من العودة بالزمن الموسيقي العربي إلى العصر العبّاسي (مثلاً)؟ قد يكون من المفيد، بحثيّاً وأكاديميّاً، إحياء التقليد الموسيقي المشرقي والعربي، لكن من دون التقوقع، والانسلاخ عن راهن الموسيقى العربية. هذان التيّاران يلتقيان بصورةٍ أو بأخرى، وخصوصاً في موقفهما الضمنيّ المشترك من الزمن. التناقض بينهما لا يشكّل عائقاً أمام مقابلتهما، ولو صدفةً، في نقطة التقاءٍ وتقاطع خارج الزمن. قيل الكثير عن أزمة الموسيقى العربية في العقد الأخير، لكن لم يتمّ التطرّق، نقديّاً وعمليّاً، إلى مسألة الزمن ربطاً بإشكالية الهوية الموسيقية العربية، ومعالمها المتحوّلة بعض الشيء.
إضافةً إلى ذلك، لا يمكن فصل ما طرأ عليها من تبدّلات عن كونها معلّقة بين نموذجين زمنيين في ظلّ التطوّر التكنولوجي، والتقارب الثقافي والفنّي بين العالم العربي والغرب. في السلّم الزمنيّ السائد، تبدو التقاسيم الارتجالية مهدّدة إذ إنّ هامش الارتجال بدأ يتقلّص بصورةٍ ملحوظة منذ نهاية القرن العشرين. أمّا التدوين الموسيقي (التنويط)، فكأنّما يُستخدم، أحياناً، وسيلةً لإغفال الارتجال وإلغائه، أكان في الموسيقى الآلتية (من آلة) أم في الغناء. هكذا نتنبّه لخطرٍ يشكّله تيّار أكاديمي لبناني وعربي محدود النظر إذ يستضيء بمفاهيم أوروبية، ويضع جانباً خصوصيّات الموسيقى العربية مقدّماً بذلك رؤية مستقبلية مائعة، ومحوكة بالاسقاطات. الزمن الحديث يُضعف أيضاً منظومة الإيقاعات العربية والنظام النغمي (المقامات) المنتقلَين، شيئاً فشيئاً، من حال الركود والتناقص التدريجي إلى التفكّك.
المقامات العربية المعاصرة لا تزال تتخبّط في وحل المغالطات النظرية، والقصور البحثي. لعلّها تفتقر إلى نظام علمي ثابت. ما يتيح للسلالم الموسيقية الغربية اكتساح الفراغات والفجوات التي لم نبذل ما في وسعنا لمعالجتها وسدّها. لا شكّ في أنّ التداخل العولمي استلزم قدراً من التنازل عن خصائص اللغة الفنّية المحلّية والقومية. قد لا يختلف اثنان على النزوع العام إلى أَسطُرٍ وصيغ متخفّفة من ثلاثة أرباع الصوت، وخصوصاً في النماذج العربية المصدّرة إلى أوروبا، والتراكيب المنمّطة التي أبصرت النور هناك وتقولبت وفق معايير السوق الأوروبية وحاجاتها.
لا داعي لإنكار ذلك، أو التذرّع بحجج خادعة، أو الاختباء وراء شعارات فضفاضة بعدما أصبحت المسألة الملتبسة بعض الشيء أمراً واقعاً لا يمكن إخفاؤه أو تمويهه. وهنا لا يعود النقاش في الاستشراق و«الموسيقى الاستشراقية» مجدياً. يجب أن نتحمّل مسؤولية إخفاقاتنا وثغراتنا بدلاً من تعليقها، في كلّ مرّة، وكلّ مناسبة، على شمّاعة الغرب. فلنصطلح، بدايةً، على تسميات محدّدة للمقامات ولنحدّد عددها قبل الكلام على أزمة الموسيقى العربية. الأغاني العربية تكاد تنحصر اليوم في إطار ضيّق يضمّ سبعة أو ثمانية مقامات: العجم، والنهوند، والحجاز، والكرد، والراست، والبياتي، والسيكاه، والصبا.
فلِمَ الحديث إذاً عن مقامات لا تُعدّ ولا تُحصى (بين 94 و200)؟ ثمّة مقامات في طور الانقراض («الزنجران» و«البستنكار» مثلاً). وثمّة مقامات تغرق في النسيان (مقام «طرزنوين» على سبيل المثال). هذا إضافةً إلى إهمال القوالب الغنائية والآلتية العربية كالدور، والموشّح، والطقطوقة، والمونولوج، والسماعي، والبشرف، واللونغا (بعضها تركيّ الأصل). قد يكون من المفيد أن ننفتح، أكثر فأكثر، على الثقافات الموسيقية الأخرى لا سيّما الغربية منها، شرط أن نستوعبها، وأن نبقى متيقّظين كي لا تصطدم مقارباتنا الجديدة والمنقولة عشوائيّاً في بعض الأحيان، أو التي تشفّ عن ميول تأثّرية جارفة...
كي لا تصطدم بواقع الموسيقى العربية ومقوّماتها. ثمّة تباينات جوهرية بين الموسيقى العربية والغربية. لذلك لا يمكن الخلط بين نظامين موسيقيين مختلفين إلا استناداً إلى منهج معرفيّ ثقافي وفنّي وعلمي، وإلى منهجية تراعي الخصوصية أوّلاً وأخيراً، أكان في الموسيقى الشرق - عربية أم الغربية. هذا أوّلاً. أمّا الأمر الثاني، فمتعلّقٌ بإعادة النظر في المفاهيم المسلّم بها، ومحاولة تقديم قراءة عصرية ومغايرة من خلال تعميق الأسئلة المتمحورة حول إشكالية التدوين، والتوزيع الموسيقي المرتكز على الهارموني، علماً بأنّ الموسيقى العربية تتّسم بطابع أفقي وهيتروفوني hétérophonique. بعد معالجة هذه المسائل، لا بدّ من التطرّق، ثالثاً، إلى أزمة التلحين والتأليف، والتساؤل عمّا إذا كنّا نفتقر إلى المواهب والطاقات الابداعية في ظلّ وجود قائمة طويلة من الأسماء المكرّسة نقديّاً.
كأنّ الجميع موضوع في سلّة واحدة - أعني الموهوب والمخضرم إلى جانب المدّعي، وعديم الموهبة، والمبتدئ...- وذلك لغياب معايير نقدية صارمة وواضحة، وبسبب سهولة الوصول، والانتشار، وإطلاق الأسطوانات، وإن بجهود فردية وظروف إنتاجية متقشّفة. بعد وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ها هي الـ«نيو ميديا» تسهم بدورها في صنع نجومية مغنّين ومؤلّفين من كرتون، وفي تشييد أبنية موسيقية عربية كرتونية. وسائل الاتّصال والتثاقف التي من المفترض أن تردم الهوّة بين الثقافات والمجتمعات تعمّق، في الوقت نفسه، الهوّة بين واقعنا الفعلي والصورة التي يريد الغرب أن نظهر فيها. هكذا نرى بعض الموسيقيين متذبذباً، ومستميتاً لإنتاج ما يريده الجمهور الغربي، علماً بأنّ النماذج التي كانت تلقى رواجاً في الغرب منذ بضعة أعوام لم تعد تلبّي حاجة المتلقّي الغربي.
المؤلّفون العرب المعدودون والمستمرّون في الإنتاج على المستويين الغنائي - التلحيني والتأليفيّ الصرف منسلّون من مناخ السبعينيّات والثمانينيّات، أو التسعينيّات على أبعد تقدير. يمكن القول إنّ معظم ما يُنتَج اليوم (وهنا نتحدّث عن النتاجات النوعية لا التجارية الاستهلاكية) بمثابة استكمال لما تأتّى عن الحركة الثقافية الفنّية والموسيقية في مرحلة النهوض، وذيولها. أمّا المؤلّفون الجدد، فمتحيّرون بين العودة إلى الزمن الماضي والهروب إلى بقعة خارج الزمن (مع وجود استثناءات) إذ تنأى عن الواقع، وعن بوتقة الأعراف الموسيقية المجمع عليها عربيّاً. في الحالتين، نجد أنّ ثمّة محاولة مضمرة للتفلّت من ضبابية المرحلة، ولتجنّب المستحدث والطارئ، رغم الادّعاء بمواكبة تطوّرات العصر. لعلّ هذا المنفى الموسيقي الاختياري بلا هوية ولا لون أو طعم، تُقابله تجارب ضيّقة المجال، ومعادية للتجديد تحت شعار «الهوية والانتماء».
إذا كنّا نعاني، أصلاً، من فجوة تاريخية تفصل بيننا وبين الغرب، فهل يمكن أن نجاريه في انسحابنا من حاضرنا؟ هذا التمزّق بين الأضداد الذي تفرضه حركة الزمن المتوتّرة يبقي الموسيقى العربية في دوّامة الأزمة، والتأرجح بين سراب التقدّم ومظاهر الركود والتراجع.
هالة نهرا
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد