الأدب التركي ينفتح على الخارج
للأدب التركي تاريخ مثير لا يشبه كثيراً تواريخ الآداب الأخرى. ففي أساس هذا التاريخ ثورة في اللغة حدّدت مجراه اللاحق.
لكي نفهم تاريخ الأدب التركي ووضعه اليوم بصورة خاصة، تجب العودة إلى المراحل التي مر بها من منظورات السياسة والاجتماع والثقافة. فثنائية الشرق – الغرب حدّدت الحياة الفكرية والثقافية في تركيا. هل يمكن إطلاق مفهوم التركيب على هذه الحالة؟ أم أن كلمة التغيير مناسبة أكثر؟ لم أر في تاريخ الأدب التركي جواباً حاسما عن هذا السؤال.
ولكن في سياق هذا التاريخ، كان أحد طرفي ثنائية الشرق – الغرب يرجح أحياناً على حساب الآخر. هل يمكن القول إن توازناً قام اليوم بين طرفَي المعادلة؟
الأدب التركي الذي يسعى اليوم الى الانفتاح على العالم ويبذل الكثير من الجهد في سبيل ذلك، لا يزال ينطوي على عناصر الشرق والغرب معاً في داخله. يمكننا ملاحظة هذا التركيب في أعمال أدبائنا المعروفين على مستوى العالم.
أعمال ناظم حكمت ويشار كمال وأورهان باموق الحاصل على جائزة نوبل وكثيرين غيرهم، تنطوي على ذلك التركيب.
حين ننظر إلى الأدب التركي في تاريخه الممتد على مدى قرون، هناك أمور علينا ألاّ نهملها.
قبل قيام الجمهورية، كان أدب المدينة هو السائد. هذه حال "أدب الديوان". كان كلا الكاتب والقارئ يملكان سوية معينة من الثقافة. كان هناك أدب شعبي وأغنية شعبية. كان الأدب الشعبي يتدفق في مجراه الخاص. إنه موجود في الأناضول منذ قرون. شعراؤنا الشعبيون وجدوا دائماً مقابل شعراء المدن. يصعب الحديث عن وصول أصواتهم إلى المدينة. لكن صوت الأدب الشعبي لم يخترق "أدب الديوان"، أو حقق اختراقات محدودة جداً. قد نجد في أبيات قليلة من قصائد قليلة لبعض شعراء الديوان عناصر من الشعر الشعبي.
اكتسب الأدب الشعبي اهتماماً أكبر بعد قيام الجمهورية، بنتيجة توجه واعٍ. أعيد الاعتبار إلى تلك المادة الخام التي ظلّت قروناً على الهامش كجوهرة مهملة، فأعادوا الشغل عليها بتقنيات وإلهامات غربية، سواء في الأدب أو في الموسيقى. فاستخدم بعض الشعراء الواقعيين الفولكلور بصياغات حديثة. حين ننظر إلى تاريخ الأدب في خطوطه العريضة، نلاحظ أن الأدب الشعبي لعب دوراً موجِّهاً في الحقبة الجمهورية.
في زمن الامبراطورية العثمانية، كان مصدر التأثير في "أدب الديوان" هو اللغتان العربية والفارسية والثقافتان العربية والفارسية. وكانت العثمانية لغة مستقلة تشكلت من تركيب خاص من هاتين اللغتين. أي أننا، على سبيل المثال، نجد في العثمانية الكثير من المفردات العربية والفارسية وقد حملت دلالات مختلفة عن أصولها.
بهذه اللغة كُتِبَ "أدب الديوان"، شعره ونثره. غير أن الشعر كان أكثر تطوراً. فجنسنا الأدبي التقليدي هو الشعر.
لكننا، مع فرمان التنظيمات في العام 1839، أدخلنا الغربَ في نمط حياتنا وثقافتنا. وفي ذلك الزمان دخلت إلينا الأجناس الأدبية الجديدة، فرياح الغرب كانت قد بدأت تهبّ علينا.
هناك وجهات نظر مختلفة حول تلك المرحلة. فالبعض يقول إن تركيا اختارت هذا الطريق لأنها كانت في حاجة إلى التغريب. في حين يحكم آخرون بأن الغرب أرغم تركيا على اختيار هذا الطريق. لأن فرمان التنظيمات لعب دوراً مهماً في حماية الأقليات الدينية. كما تسارعت الحركات الاستقلالية للأمم الصاعدة بعد ذلك التاريخ.
إذا نظرنا إلى هذا التاريخ من زاوية الأدب، فسوف نسجل ظهور أعمال تنتمي إلى أجناس أدبية جديدة. فانتشرت أجناس لم تكن معروفة قبلاً. إلى جانب الاهتمام المستمر بالشعر، لاقت الأنواع النثرية أيضاً بعض الاعتبار. ذلك لأن كل مجتمع يبدأ بالتفكير سوف يكون في حاجة إلى النثر. أخذت تصدر روايات ومسرحيات ومقالات ونقد وقصص قصيرة، تشبه قريناتها الغربيات. لقد فعلنا ذلك بإدخال موادنا الخام الخاصة بنا في إطار التقنيات الغربية. من أبرز الأمثلة على ذلك، أعمال أحمد مدحت أفندي ويشار كمال. إنما في ذلك الوقت بدأنا نستفيد من الأدب الشعبي والفولكلور. عليَّّ أن أوضح أن هذا الاستخدام للمواد الأولية ليس شيئاً يتفرد به الأدب التركي. انعكست الطريقة نفسها على الموسيقى والرسم أيضاً.
فقد تعلم الرسامون التقنيات الغربية، ثم تجولوا في أرجاء الأناضول ورسموا. وأعاد الموسيقيون تقديم الأغنيات الشعبية في إطار الموسيقى المتعددة الأصوات. هكذا لم يقتصر تأثير الغرب على الأدب فقط، بل تجاوزه إلى الموسيقى أيضاً.
الخلاصة أن الغرب جدَّد الشرقَ في الشكل، وكلاهماً معاً أنتج تركيباً يخصّنا.
استمرت هذه الثنائية، ثنائية التعايش بين الشرق والغرب، إلى قيام الجمهورية. لكن الجمهورية زادت في ارتباطنا بالغرب. والأصح أن الأجناس الأدبية القديمة أصبحت توصف بالشرقية وفقدت مكانتها مع كل ما هو قديم وشرقي. وما عاد في إمكان القارئ أن يختار القديم الشرقي، فقد تغيَّرت الأبجدية واللغة معاً. فبعد ثورة الأبجدية واللغة غدا الوصول إلى المصادر القديمة متعذراً في طبيعة الحال. أو بالأحرى لم تر الجمهورية الوليدة ما يدعو إلى استعادة التقليدي، في مسعاها لخلق أدب يخصها. على العكس تماماً، اختارت الرفض القاطع للتقليدي للتقدم في سكّتها الجديدة. في وقت لاحق سيتم التراجع عن فقدان الذاكرة وإفقادها بتلك الطريقة.
أطلق وزير التربية الوطنية في الجمهورية الفتية حسن عالي يوجل، برنامجاً للنهضة الثقافية تحت عنوان "كلاسيكيات الأدب العالمي". فأنشأ مكتباً للترجمة قام بترجمة كلاسيكيات الشرق والغرب إلى لغتنا، فتمكن قراء ذلك العصر ممن لا يجيدون اللغة العثمانية القديمة، من قراءة كلاسيكيات الشرق.
لاقى هذا التحول انتقادات كثيرة في ما بعد، بدعوى أنه خلق قطيعةً في الأدب والثقافة. بيد أنه كان إحدى أدوات استقرار النظام الجديد. فما كان من الممكن تكريس التوجه نحو الغرب وتقويته بغير ذلك.
شمَّر الكتَّاب عن سواعدهم من أجل نموّ النظام الجمهوري واستقراره وتمدده. بل يمكن القول إنه تم تكليفهم هذه المهمة. ليس النظام الجمهوري استثناءً في هذا المسلك، فكل نظام بإطلاق القول يدرك أهمية الأدب في تمكين إيديولوجيته من الاستقرار. إنها ظاهرة ذات دلالة أن الكثير من كتَّاب ذلك العصر انتُخِبوا نواباً في البرلمان ودافعوا عن مواقف الحكومة، أو على الأقل لم يعارضوها.
لكننا بفضلهم، في المقابل، علمنا بحيثيات قيام الجمهورية وتجاذبات مرحلة التأسيس وفلسفة النظام. لأنهم جميعاً كانوا حول أتاتورك ويتناولون عشاءهم الى مائدته.
أما الكتّاب المعارضون فقد توزعوا بين السجون والمنافي. معارضو مرحلة حرب الاستقلال الوطني، المجموعة التي أطلق عليها مجموعة المئة وخمسين، عادوا من منافيهم بعفو صدر عنهم بعد سنوات. وكان بينهم كتّاب معروفون كرضا توفيق ورفيق خالد كاراي.
قُبيل قيام الجمهورية وبُعيده، ظهر أدبٌ يتناول حرب الاستقلال الوطني شعراً ونثراً، شكَّل مكتبةً تخصّه.
مات أتاتورك في العام 1938، وكان العالم على عتبة الحرب العالمية الثانية واندلاع شرارة الصراع بين قطبَي الفاشية والنازية من جهة، والشيوعية – الاشتراكية من جهة ثانية. ووجد هذا الصراع انعكاسه في تركيا أيضاً، فاختار كل شخص موقعه في الصراع. وإذا كانت تركيا لم تدخل الحرب فعلياً على جبهات القتال، فقد أحسسنا برياحها السياسية بقوة.
انتهت مرحلة الكتّاب - النواب في مجلس الأمة، واتسعت الهوة باطراد بين السياسيين والأدباء. وتلاحقت محاكمات الكتّاب ومعاقبتهم بالسجن. انتهى عهد التوافق وأخذ الكتّاب ينتقدون الحكومة والدولة من منظورات فكرية مختلفة. حدث إذاً ما هو مأمول، فأعلن المثقفون استقلالهم عن الدولة، ودفعوا الثمن في مرحلة حكم الحزب الواحد.
كثيرون من كتّاب تلك المرحلة طُردوا من عملهم ودخلوا السجون والمعتقلات لأنهم شيوعيون أو اشتراكيون أو يساريون. أو أنهم ظلوا عاطلين عن العمل بسبب هذه الوصمة. تعرض الكتّاب والمثقفون الأتراك إلى هذا الاضطهاد مع الانقلابات العسكرية الدورية.
الأدباء الذين يمكننا وصفهم بالواقعيين الاشتراكيين أو الاشتراكيين أو الشيوعيين، كانوا في طليعة من تنكّبوا عبء معركة الحرية.
الواقع أن مصائر الكتاب لم تتغير كثيراً بعد انتهاء نظام الحزب الواحد والانتقال إلى التعددية الحزبية في عقد الخمسينات.
لا شك أن الرمز الممثل لذلك هو الشاعر ناظم حكمت. فبعد سنوات من عمره أمضاها في السجون، خرج ثم أُرغم على الرحيل إلى موسكو.
ورُفعت دعاوى ضد غيره من الكتّاب والشعراء أيضاً.
ما مدى أهمية التيارات والجماعات في تاريخ أدب من الآداب؟ علينا ألاّ نحكم بصورة قاطعة. ولكن يمكننا أن نذكر في تاريخ أدبنا المعاصر كلاً من "تيار ثورة الفنون" وتيار "الفجر الآتي" ومجموعة "المشاعل السبعة" وتيار "الغريب" وتيار التجديد الثاني.
في مرحلة الحرب تطور الأدب الواقعي وحوكم الشعراء الواقعيون.
لقد كتبوا عن عامة الشعب البائس، وتحدثوا عن الحارة الشعبية وأهاليها.
دخلت شخصية العامل، الروايات والقصائد. كان طبيعياً أن يشهد الأدب "العمالي" صعوداً في ظل هيمنة ثقافية للمنظورات الماركسية.
هذه الميول تعرضت، مع الانقلابات العسكرية، لانقطاع. رحلت أجيال فظهر انقطاع جيلي في الثقافة والأدب.
ظهر أدب لا- سياسي، بيد أن الخط الآخر الاشتراكي حافظ على وجوده. وقعت تجاذبات وصدامات بين السياسة والأدب، في السنوات الأولى للجمهورية الوليدة وفي المراحل التالية أيضاً.
ولكن علينا ألا نغفل خطاً عريضاً آخر في تاريخ الأدب التركي المعاصر. أعني الأدب الريفي أو الرواية الريفية التي فقدت اليوم أهميتها وقرّاءها.
شهدت السنوات الأولى للنظام الجمهوري تقريظاً للقرية كان رومنطيقياً لا واقعياً. لكن الرواية الشهيرة لمحمود مقال، "قريتنا"، فتحت مرحلة جديدة اتجه فيها اهتمام القرّاء نحو الأدب الذي يتناول الريف. وبات قرّاء المدن يعرفون القرية الواقعية من خلال الأدب.
كان كتَّاب تلك الروايات من أصول ريفية. لقد ولدوا ونشأوا في القرية، وتلقّوا تعليمهم في "معاهد القرى" التي كانت مشروعاً كبيراً لتعليم أبناء الريف. لدينا اليوم أيضاً أدباء جدد لا يزالون يقدّمون أعمالاً في الخط نفسه.
يتابع الأدب التركي اليوم نموّه وتقدّمه على أكثر من خط.
الأجيال الجديدة من الأدباء، تقرأ المعلمين القدماء والتيارات العالمية الجديدة على السواء.
أؤمن بأن ترجمة الأعمال الأدبية التركية إلى اللغات الأجنبية ستؤدي إلى ظهور قراء أجانب معجبين بالأدب التركي. وهذا ما يقوم به مشروع "تيدا" الذي أطلقته وزارة الثقافة التركية لترجمة الأعمال الأدبية التركية إلى لغات العالم. ونحن نشارك في معارض الكتاب التي تقام خارج تركيا من طريق هذه الوزارة. وقد كانت تركيا ضيف الشرف في معرض فرانكفورت للكتاب، العام الماضي، وهو أكبر معرض للكتاب في العالم. وتمت ترجمة مؤلفات عدد كبير من كتّابنا إلى اللغة الألمانية، في هذه المناسبة، وتم عرضها في ستاندات بلدان أخرى، إضافة إلى الستاند التركي. كذلك شارك عدد من الكتّاب الأتراك البارزين في معرض باريس للكتاب. فكان الروائي نديم غورسيل واحداً من ثلاثين كاتباً ضيوف شرف معرض باريس الذي احتفل بالذكرى السنوية الثلاثين لتأسيسه.
بدأ الأدب التركي يتنوع.
فإلى جانب الأجناس الأدبية التقليدية من رواية وقصة وشعر ومقالة ونقد، بات لدينا أدب خيال علمي ورواية بوليسية.
لدينا الآن كتّاب وشعراء لهم جمهورهم من القرّاء، تشربوا تراث الأدب التركي من جهة، ولديهم اطلاع جيد على الأدب العالمي من جهة ثانية، يناقشون النظريات الأدبية ويخلقون الجديد. ساعد في ذلك تقدم الدراسات والأبحاث المحلية في ميدان الأدب إضافة إلى تقدم الترجمة من اللغات الأخرى.
هذه هي الخطوط العريضة لتاريخ الأدب التركي المعاصر بإيجاز شديد ¶
بقلم دوغان هزلان* (ترجمة بكر صدقي)
* دوغان هزلان ناقد أدبي تركي معروف يكتب في جريدة "هوريات" التركية الواسعة الانتشار.
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد