الدراما السورية لعبة أدوار لا دراما شخصيات
برغم التنوع الظاهري الذي عكسته الأعمال الدرامية السورية على مدى السنوات العشر الأخيرة، إلا أن هذه الأعمال ما زالت ترزح تحت هيمنة «الكليشيهات» في معظم أشكالها الفنية من تاريخي ومعاصر وبيئي وديني كما يطيب للبعض أن يصنفها.
ولعل أبرز هذه «الكليشيهات» هو كتابة الشخصيات في المسلسل التلفزيوني، إذ نادراً ما تفرز الساعة التلفزيونية السورية شخصيات مكتوبة بحق، بل يمكن القول إن أغلب ما أنتجته الدراما السورية يتمحور حول أدوار أكثر منها شخصيات من لحم ودم. وشتان بين الدور والشخصية.
الدور عبارة عن «كاركتير» خارجي يلعبه الممثل دون عناء، ويديره لصالح الحبكة الدرامية السهلة، وغالباً ما يكون إما شريراً أو خيّراً، أسود أو أبيض. ويبقى الدور دوراً في تقسيم كتّاب مبتدئين أو دخلاء على الكتابة الإبداعية، ليصبح المشاهد متابعاً لجوقة من الأدوار السطحية في مشاعرها ورغباتها. الدور لا يتيح للكتابة الإبداعية النفاذ إلى العمق لكونه يحاكي القشور، ثم انه لا يسمح بتحقق معنى الدراما، بل يحوّلها إلى مجرد ميكانيك أعجمي عن واقعها المفترض محاكاته، وهو غير قادر أصلاً على إيصال مكنونات الدراما، بل يراوح في فناء البيت من غير أن يدخل الغرف السرية التي تتيحها الشخصية. الدور قريب جداً من رسوم الكاريكاتور، يوصل الفكرة ببساطة ويعرف عن نفسه من النظرة الأولى، لذلك فهو لا يحتاج إلى مقدمات، ولا يستأهل قراءات متعددة. فالأدوار نسخ من الثرثرة المفرّغة من مضامينها، لا سيما في معظم الكتابات الجديدة.
أما الشخصيات فلا مجال لها في الدراما السورية إلا ما ندر. فالشخصية رغم أنها دور في الأصل، إلا أنها تختلف عن مزاياه، لكونها قبل كل شيء كتومة ولا تعطي انطباعاً بيّناً من اللحظة الأولى في عين المشاهد. ثم انها مفاجئة، ثرية، غامضة، عميقة، متناقضة في حدود منطقها الدرامي. الشخصية المكتوبة هي أصل وفصل الدراما، لائبة، متحركة، فاعلة، انتقامية، مغايرة للتوقعات، منزّهة عن التكرار، لاذعة، خوّانة، شريرة حتى في مآربها الطيبة ظاهرياً، أنانية، متحاربة، متسلّطة، متغطرسة، متناظرة، متجاورة مع الشخصيات الأخرى، متطلّبة، مشوّقة، ساحرة.
الشخصية هي المأزق الدرامي، القصة، الصراع ... وجسد الحبكة.
إذاً، الدور هو فيزياء محضة، فيما الشخصية كيمياء خالصة. ولا يمكن أن ننعت الأعمال التلفزيونية «بالدراما السورية» قبل أن نكتب خيمياء شخصياتها، لا أدوارها الوظائفية، ما يفرض ثقافة كبيرة لدى كاتب السيناريو. فمن غير الجائز أن يكتب الأميون للدراما السورية، أو أن يُخرجها أشخاص لا يقرأون، وليس لديهم أدنى درجات التحصيل العلمي أو الأكاديمي. ومن غير اللائق ترك الحبل على غاربه لأنصاف وأرباع المواهب، الذين تروّج لهم شركات المال الجاهل، ويصبحون نتيجة توافر عناصر فنية وتقنية أساتذة كبارا لا يُشق لهم غبار، ولا يمكن أن يقبلوا إلا بأجور خيالية. فالكثير من نجوم شباك الدراما السورية من المخرجين والكتّاب، لا يصلحون لهذا الدور، ولا لهذه الشخصية على حد سواء.
إن الاستمرار على منوال كتابة الأدوار سيهدم أي بارقة أمل لمشروع يعتبره الكثيرون منتجاً وطنياً، وسيأتي على الجهود المبذولة للمنافسة. إن نظرة خاطفة اليوم لما قُدم في الدراما السورية سيذكرنا بشخصيات لا يمكن أن تمحى من ذهن المشاهد، لكونها شخصيات وليست أدواراً. فمن ينسى على سبيل المثال شخصية «الأزرق» في مسلسل «غضب الصحراء» التي أداها الفنان عبد الرحمن آل رشي؟ أو شخصية «أسعد الورّاق» التي أداها الفنان الراحل هاني الروماني؟ أو شخصية «مطر» في مسلسل «ذكريات الزمن القادم» التي أداها جمال سليمان؟ أو «الزير سالم» لسلوم حداد؟ أو شخصية «ديب» التي أداها بسام كوسا في «سحابة صيف»؟
شخصيات كثيرة حفلت بها الدراما السورية في بداياتها الأولى والمتوسطة، وقليل منها في مرحلتها الراهنة، لكن للأسف تراجعت الشخصيات لتحل مكانها الأدوار. فالكتابة الدرامية اليوم أصبحت تعج بالتقنيين أكثر من المبدعين، وأصبح بمقدور الجميع بمجرد الحصول على نموذج من سيناريو تلفزيوني أن يكتب على غراره، يلفق لنا مسلسلاً عن الجريمة الأخلاقية، والمافيات التحت أرضية، والأيدز، وسفاح القربى، وحارات الشام «العدية». أمست كتابة السيناريو «شغلة الما لو شغلة». كما تحولت مهنة الإخراج إلى مهنة تنفيذية تدير أدوارها الممجوجة أمام الكاميرا من دون وازع من جمال أو ضمير. وصار بإمكان أي ربة منزل وهي تقمّع البامياء والفول الأخضر أن تكتب سيناريو «بيجلط».. أيها الساقي إليكَ المشتكى؟
سامر محمد اسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد