جائزة القذّافي: قصّة فضيحة
كأنه اكتشف الآن أنّ معمّر القذافي سفّاح. جابر عصفور ينسحب هذه المرّة أيضاً، بعد فوات الأوان. الناقد والمثقف المصري، وآخر وزير ثقافة في عهد مبارك، أعلن قبل أيّام، بفعل صحوة مباغتة، أنّه أعاد جائزة القذافي التي حصل عليها منذ أقل من عام، لكنه لا يعرف كيف يعيد قيمتها! هل الأمر حيلة حتى تهدأ الأوضاع ويكون قد حقق مكسبين: صورة المثقف الشجاع الذي يدخل التاريخ برفضه جائزة الديكتاتور، والأموال التي لا يعرف إلى أي جهة يعيدها. اكتشف عصفور فجأة أن القذافي ديكتاتور خطير، الأمر الذي كان خافياً عليه تماماً حين قبل بجائزته، بعدما رفضها كاتبان كبيران.
بدأت حكاية الجائزة باقتراح تقدّم به الروائي الليبي إبراهيم الكوني الذي كان معارضاً في السبعينيات، ثم أصبح الوردة التي يتبنّاها نظام القذافي: جائزة أدبيّة عالميّة، يقدّمها الأخ القائد المناضل، لإظهار وجه ليبيا المشرق للعالم، بتعبير الكوني. اختار الأخير الناقد المصري صلاح فضل مقرراً لها، ورئيساً للجنة التحكيم. وكان بين أعضاء اللجنة الناقد الأميركي إليوت كولا. عقد الاجتماع الأول في طرابلس، وكانت النية أن تسمّى الجائزة «جائزة أفريقيا العالمية للآداب».
وقد لاحظ كولا أثناء الاجتماع أن كاميرات تصوير في القاعة تنقل ما يقال إلى جهات غير معروفة. صلاح فضل الذي لاحظ الكاميرات أدرك بخبث ما يجري، فطلب أن تحمل الجائزة اسم القذافي. اقتراح لاقى اعتراضاً من أعضاء لجنة التحكيم، بمن فيهم إبراهيم الكوني. لكنّ فضل راح يشرح أسبابه: «حمل الجائزة لاسم القذافي سيغري باقي الحكام العرب على أن يحذوا حذوه، وينشئوا جوائز أدبية بأسمائهم تثري الآداب العالمية». هذا ما أعلنه وقتها. لكنّ عدداً كبيراً من أعضاء اللجنة فضّل الاستقالة بمن فيهم الكوني.
بعد انسحاب لجنة التحكيم، اختار فضل الإسباني الشهير خوان غويتسولو لنيل الجائزة في دورتها الأولى، لكن الكاتب الذي انطلق من حسّ إنساني رفيع رفضها، وأعلن يومها في مقال أشبه ببيان: «انسجاماً مع اقتناعاتي ومواقفي المناصِرة لقضايا العدل، قررت رفض «جائزة القذافي العالمية للآداب»... بل أرى رفضها خطوة في اتجاه البحث الدائم عن التماهي مع مواقفي المناهِضة دوماً للأنظمة الاستبدادية». ووجّه تحيّة إلى المعارضين في ليبيا، مضيفاً أنه لا يمكن أن يقبل «مالاً من القذافي على الحكم بانقلاب عسكري لأكثر من 40 عاماً».
هنا، أصبح فضل في موقف حرج، وبدأت الاتهامات تنهال على الكوني الذي أصدر بياناً تبرأ فيه من الكاتب الإسباني نفسه. حتى مقدمة خوان غويتسولو للترجمة الإسبانية لروايته الشهيرة «التبر»، زعم أنّها ليست مقدمة بل مقال نشر مع الرواية من دون الرجوع إليه.
وبدأت حملة قادها فضل ضد غويتسولو، فنفى في البداية ترشح الكاتب الإسباني للجائزة، وعدّ مراسلاته معه وحثّه على قبولها مجرد مداولات لا تعني أنّه المرشح الوحيد. وشنّ الأمين العام للجائزة محمد خصيري هجوماً على الكاتب الإسباني بلغ حد المطالبة بإبعاده عن زمرة الأدباء. وقال في رسالة وجّهها له ولغيره ممن تسوّل لهم أنفسهم رفض جائزة القذافي: «إنّ من يرفض الجائزة التي تمنح من أموال الشعب الليبي الذي يحكم نفسه بنفسه منذ قيام الثورة الشعبية التي خطط لها وقادها معمر القذافي، وفجّرها في الفاتح من سبتمبر سنة 1969، عليه البحث لنفسه عن مكان خارج موكب الأدباء الذين سخّروا أقلامهم لمناصرة الحرية والدفاع عنها في أي مكان في العالم».
بعد اجتماعات أخرى لحلّ المشكلة، اختير الكاتب الجنوب إفريقي برايتن بريتنباخ للجائزة. لكنّه رفضها من دون إعلان السبب. وكان الحل الأخير لإنقاذ الجائزة جابر عصفور الذي لم يتردّد في قبولها، بل خرج في وسائل الإعلام ليبرّر قبوله قائلاً بأنّه يأتي انسجاماً مع موقفه الداعي إلى الاشتراكية والحرية. هل يصعب إلى هذا الحدّ على مثقّف عربي، تنويري وتقدّمي ويساري، أن يقاوم إغراء 150 ألف يورو؟ وهل يسهل على المثقّف نفسه، بعدما شهد للزور، أن يتحوّل بطلاً ومناصراً للشعوب ضد الديكتاتوريّة، بين ليلة وضحاها؟
المشكلة لدى المثقفين العرب أنّ ذاكرتهم مثقوبة، وأنّهم يراهنون على النسيان، أو على إعادة كتابة التاريخ بطريقة مزوّرة... عصفور يمتلك الجرأة الآن كي يعنون إحدى مقالاته في «الأهرام» قبل أيام: «ما فعله الحزب الوطني بمصر». كأنّه لم يقبل أن يكون جزءاً من تلك السلطة طوال سنوات، بل عضواً في الحكومة قبل أيام من رحيل مبارك.حبّذا لو أنّ هذا الجيل المستقيل يمتلك جرأة محاسبة الذات، والقيام بنقد ذاتي حقيقي، يفيد الأجيال المقبلة، ويكون مساهمتهم المتأخرة، لكن النزيهة والصادقة، في عمليّة التحوّل والتغيّر.
وداعاً «مبارك»
في مصر كل شيء يتغيّر. حملة التطهير تنال كل المؤسسات التي حملت اسم الرئيس السابق أو أياً من أفراد أسرته. هكذا، تم تغيير أسماء الشوارع والمدارس والمؤسسات الأهلية. والآن جاء دور المكتبات الصغيرة التي تحمل اسم سوزان مبارك. إذ ستسمّى بأسماء شهداء الثورة. «جائزة مبارك للآداب» أيضاً ستستعيد اسمها الحقيقي السابق وهو «جائزة النيل الكبرى»، كما كان مقترحاً وقت التأسيس. ويبقى الآن أن يُصدر المجلس العسكري الحاكم قراره بإعادة الاسم القديم. وكان عدد من المثقفين المصريين قد أصدروا بياناً طالبوا فيه بإلغاء اسم الجائزة واستبداله بآخر يليق بـ«ثورة 25 يناير». وقد وقّع البيان عدد كبير من الكتاب بينهم: بهاء طاهر، وإبراهيم عبد المجيد، وأحمد السيد النجار، وعبد العليم محمد، ومحمود قرني، وغادة الحلواني، وسعد القرش، وعصام زكريا وعشرات آخرين.
محمد شعير
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد